samedi 8 août 2009

النقد الثقافي عند عبد الله الغذامي

النقد الثقافي عند عبد الله الغذامي

العلوي رشيد

مدخل:

يشكل مجال النقد في الدراسات الأدبية، مجالا واسعا إلى أن أصبح الضرورة التي لا غنى عنها لتنمية وتغذية "النص الأدبي" بمختلف تلاوينه. واعتبر النقد الأدبي إلى عهد قريب أداة منهجية لقراءة وإعادة قراءة النصوص الأدبية. إلا أنه ونظرا لتنامي نظريات نقدية جديدة، كان لزاما على الدراسات الأدبية بين الحين والآخر مراجعة الطرق والمناهج المتبعة لفتح المجال لمناهج جديدة ولاعادة بناء النص وتأطيره بمنظورات أخرى مغايرة.

سنقف في هذا العرض على مفهوم "النقد الثقافي" في حقل الدراسات الثقافية العربية، كأداة جديدة ساهمت في إغناء الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، مع الاطلالة على أصول هذا "النمط الجديد"، وعلى ينبوعه الأول. ذلك أنه في عقد التسعينيات من القرن الماضي عرفت الدرسات الثقافية ازدهارا ملحوظا. وتركيزنا على الدراسات الثقافية العربية، أملته الحاجة إلى النظر في هذا المنهج الجديد الذي حضي باهتمام متزايد، من أجل الكشف عن الجدة فيه، وعن مكامن الخلل التي يمكن أن يصيبه. كما أملته الحاجة إلى الاطلاع على ما استجد في حقل الدراسات الثقافية، ذلك أن الاهتمام بالتراث الثقافي كيفما كان نوعه لا يمكن أن يتم إلا بالإلمام بنظريات ومناهج قراءة النص التراثي عموما (وليس الأدبي تحديدا)، على الرغم من أن هذا العرض لا يعالج إلا النوع الأدبي، لأن ازدهاره وظهوره الأول ارتبط بمجال الدراسات الأدبية.

تعتبر محاولة عبد الله الغذامي لإرساء أسس منهج جديد، ومشروع نقدي جديد، من أهم المحاولات التي حضيت باهتمام النقاد العرب اليوم، إلا أنها محاولة لا تنفك هي بدورها من التأثير "الغربي"، ذلك أن النقد الثقافي ظهر وأرسى أسسه الأولى في أوربا إبان القرن الثامن عشر، ولقي في العقد التاسع من القرن الماضي إقبالا في أمريكا نتيجة دعوة الباحث الأمريكي "فنسنت ليتش V.leitch إلى ضرورة نقد ثقافي ما بعد بنيوي، يسعى إلى الخروج عن القواعد المؤسساتية التي تقيد النقد عادة والاهتمام بالانتاج الأدبي غير الرسمي أو غير المعترف به رسميا، أي أدب المهمشين. ويعتبر ليتش أهم مصادر الغذامي، كما سنرى.

وعلى هذا الأساس نتساءل: ما النقد الثقافي؟ كيف تشكل؟ ما هي مبررات ضرورة نقد جديد للدراسات الثقافية؟ كيف يتم النقد الثقافي؟ ما هي مجالات ومستويات النقد الثقافي؟ ما الجديد في النقد الثقافي؟

I - في النقد الثقافي: تحديد المفهوم

يسعى الغذامي في الفصل الأول من كتابه: "النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية"[1]، إلى تحديد مسيرة ظهور هذا المصطلح في الثقافة الغربية، والأمريكية على الخصوص، هكذا أراد أن يعين للمصطلح ذاكرة، معتبرا أن الدراسات الثقافية ازدهرت بالاساس في عقد التسعينيات من القرن العشرين، مع أنها بدأت منذ 1964 كبداية رسمية منذ أن تأسست مجموعة بيرمنجهام: Birmingham center for contemporary cultural studies .

وتهتم الدراسات الثقافية بالنصوص الأدبية لاستكشاف أنماط معينة من الأنظمة السردية والاشكالات الإيديولوجية وأنساق التمثيل. فالنص لا يشكل أساس الدراسات الثقافية بل هو مجرد أداة ووسيلة لأن أهمية الثقافية "تأتي من حقيقة أن الثقافة تعين على تشكيل وتنميط التاريخ". وتوسعت هذه الدراسات لتشمل أنواع أدبية أخرى جديدة: العرق والجنس والجنوسة gender والدلالة والامتاع.

وقد تأثرت الدراسات الثقافية بنظرية غرامشي بتوظيفها لمفهوم الهيمنة، فالثقافة تعبير عن العلاقات الاجتماعية وفي نفس الوقت أداة للهيمنة. وتعتبر أغلب الدراسات أن مصادرها النظرية تتمثل في:

* التاريخ والفلسفة

* السوسيولوجية

* الأدب والنقد

إلا أن الدرسات الثقافية تعرضت للنقد نتيجة ضعفها النظري وفقرها المنهجي مما ساهم في ظهور النقد الثقافي. بعد أن تعرض مفهوم الثقافة للنقد من طرف كلنر da’ kellner الذي أسس رؤيته النقدية المسماة: "نقد ثقافة الوسائل" media culture والذي زاوج بين:

* مدرسة بيرمنجهام

* مدرسة فرانكفورت

تنبني نظريته حول ما طرحه مؤسسو فرانكفورت حيث أن الوسائل تتحكم في المتلقي وتصنعه وفق أهداف وقوالب جاهزة، حيث تجري عمليات تسليع الثقافة مع دمج الناس في مستوى واحد. وتعميم هذا النموذج مما يحقق تبريرا ايديولوجيا لمصلحة الهيمنة الرأسمالية، واقحام الجماهير في شبكة المجتمع والثقافة العمومية. لقد اتخذ كلنر الثقافة كمجال للدراسة.

إن النقد الموجه للثقافة وللدراسات الثقافية، ساهم بشكل أو بآخر في بلورة مفهوم النقد الثقافي على يد ليتش فنسنت V.leitch الذي يرى أن النقد الثقافي يقوم على ثلاث خصائص:

* لا يتعلق بالتصنيف المؤسساتي للنص الجمالي بل يذهب إلى ما هو غير جمالي في عرف المؤسسة (خطاب أو ظاهرة).

* يستفيد من مناهج التحليل العرفية: تأويل النصوص، دراسة الخلفية التاريخية، التحليل المؤسساتي.

* يركز على أنظمة الخطاب والافصاح النصوصي كما هو عند بارث، دريدا، فوكو، خاصة مقولة دريدا: "لا شيء خارج النص".

ولم يكتفي ليتش بالمستويات الثلاث وفقط بل عمل على الانتقال من نقد النصوص إلى نقد المؤسسة نظرا لاعتباره أن القراءة مقيدة ومسيجة بقيود المؤسسة الأكاديمية التي ترسم إطارا جامدا للقراءة لقولبتها وضبطها.

II - النقد الثقافي: النظرية والمنهج

عمل الغذامي في الفصل الثاني من كتابه على تحديد مفهوم النقد الثقافي، بعد أن وضع نظرة موجزة عن مسيرة هذا المفهوم، ويتمثل السؤال المحوري في مشروع الغذامي في: هل هناك في الأدب شيء آخر غير الأدبية؟

يحاول أن يؤسس للمفهوم أولا معتبرا أن التعريف المؤسساتي للنقد الثقافي الأدبي غير مجد، وهو تعريف يركز على: أن الأدبي هو الخطاب الذي قررته المؤسسة الثقافية حسب ما توارثته من مواصفات بلاغية وجمالية قديمة وحديثة وهذا التصنيف في نظره يميز في الأدب ما هو رديء وما هو جيد، ما هو راق وما دون الرقي. لذلك يعتبر أن عمله إطار الأدب إلى الثقافة، متسائلا: كيف يمكننا إحداث نقلة نوعية للفعل النقدي من النقد الأدبي إلى الثقافي...؟

هكذا يرى أن:

" النقد الثقافي فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية معنيّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. ومن حيث دور كل منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو لذا معني بكشف لا الجمالي كما شأن النقد الأدبي، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة البلاغي/الجمالي، فكما أن لدينا نظريات في الجماليات فإن المطلوب إيجاد نظريات في القبحيات لا بمعنى عن جماليات القبح، مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البلاغي في تدشين الجمالي وتعزيزه، وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي وللحس النقدي".[2]

وبهذا يعين العديد من العمليات الإجرائية والتي تتمثل في:

* نقلة في المصطلح النقدي ذاته؛

* نقلة في المفهوم (مفهوم النسق)؛

* نقلة في الوظيفة؛

* نقلة في التطبيق؛

أولا: النقلة الاصطلاحية

تتمثل النقلة على مستوى المصطلح النقدي في ذاته في ستة عمليات ترتكز أساسا على نقد العمليات النقدية والمفاهيم السائدة في النقد الأدبي محاولا تجاوز البعض منها وتطويرا البعض الآخر، وتتم هذه النقلة على مستوى:

1 - عناصر الرسالة (الوظيفة النسيقة):

يستند على نظرية جاكوبسون في التواصل والتي نقلها من الإعلام والاتصال إلى الأدب والتي ترتكز على ستة عناصر: المرسل، المرسل إليه، الرسالة، السياق، الشفرة، الاتصال. والتي تقابلها ستة وظائف: النفعية، التعبيرية، المرجعية، المعجمية، التنبيهية، الشاعرية (الجمالية). ويرى الغذامي أنه سيضيف وظيفة سادسة هي الوظيفة النسقية، إلى جانب عنصر جديد هو عنصر النسق.

وبالتالي نكون أمام سبعة عناصر لنظرية التواصل وسبعة وظائف، وقد أجملها الغدامي في المخطط التالي:

الشفرة

السياق

الرسالة

المرسل ------------------------------ المرسل إليه

أداة الاتصال

العنصر النسقي

تشكل هذه الإضافة بالنسبة للغذامي أساس نظري لدراسته، معتبرا أن هذا النسق هو أساس النقد الثقافي.

2 - المجاز والمجاز الكلي:

المجاز بالنسبة للغذامي لا يمتلك وفقط قيمة بلاغية / جمالية بل قيمة ثقافية. حيث يعتبر المجاز مفهوما بلاغيا يدور حول الاستعمال المفرد للفظة المفردة. ونظرية المجاز تقوم على الازدواج الدلالي والذي يسمى المجاز والحقيقة والذي يصف حركة اللغة في تحويل القول من معنى إلى آخر.

ينبغي في نظره تجاوز هذا المعنى الضيق وذلك بنقد المفهوم البلاغي للمجاز، واقتراح "مفهوم ثقافي للمجاز يوسع من مجاله ويهيئه لاستعمال نقدي أكثر وعيا بالفعل النسقي وتعقيداته"[3]، والتأمل في الفعل الثقافي من حيث أداؤها التعبيري المباشر ثم التأثيري غير المباشر. وهذا يعني أن ذلك يتم على مستوى كلي وليس جزئي. لذلك ينبغي تجاوز مفهوم المجاز إلى مجاز كلي حيث المعنى الدلالي يتجاوز العبارة والجملة إلى الخطاب الثقافي ببعده الكلي الجمعي.

3 - التورية الثقافية:

التورية تعنى بالظواهر التعبيرية المقصودة فعليا في صناعة الخطاب وفي تأويله. وفي النقد الثقافي لا نعنى ـ حسب الغذامي ـ بالوعي اللغوي بل معنيون بالمضمرات النسقية. والمعنى المقصود في التورية هو المعنى البعيد. ويخضع العملية للقصد أي للوعي ويحولها إلى لعبة جمالية. إن التورية تركز على إزدواج دلالي: بعيد وقريب، في حين استعير هذا المفهوم في النقد الثقافي ليدل على حال الخطاب إذ ينطوي على بعدين أحدهما مضمر ولاشعوري ليس في وعي المؤلف ولا في وعي القارئ. إنه مضمر نسقي ثقافي لا يكتبه كاتب فرد، ولكنه انوجد عبر عمليات من التراكم والتواتر حتى صار عنصرا نسقيا يتلبس الخطاب ورعية الخطاب من مؤلفين وقراء.

لذلك يدعو الغذامي إلى تورية ثقافية، إذ المضمر في النصص لا يوجد في النص بل في المضمر الثقافي.

4 - نوع الدلالة: الدلالة النسقية

النقد الأدبي بنى مشروعه على ازدواجية: دلالية صريحة دلالية ضمنية ويقترح الغذامي دلالة ثالثة هي: الدلالة النسقية.

ونكاد لا نجد تعريف واضحا لهذه الدلالة في نص الغذامي، بل يعتبرها ميتافيزيقة وغير دالة وغامضة، لذلك يدعونا إلى التسليم بها وفقط حيث يقول: "المهم هنا هو أن نسلم بضرورة إيجاد نوع ثالث من الدلالة هو (الدلالة النسقية) وعبر هذه الدلالة سنسعى إلى الكشف عن الفعل النسقي من داخل الخطاب"، وقبل هذا القول نقرأ فعلا عبارات لا معنى لها بتاتا وخاصة في مشروع يعتبر نفسه مشروعا نظريا يسعى إلى بناء نظرية في الأدب والثقافة عموما: "إن الدلالة النسقية ترتبط في علاقات متشابكة نشأت مع الزمن لتكون عنصرا ثقافيا أخذ بالتشكل التدريجي إلى أن أصبح عنصرا فاعلا، لكنه وبسبب نشوئه التدريجي تمكن من التغلغل غير الملحوظ وظل كامنا هناك في أعماق الخطابات وظل ينتقد ما بين اللغة والذهن البشري فاعلا أفعاله من دون رقيب نقدي لانشغال النقد بالجمالي أولا ثم لقدرة العناصر النسقية على الكمون والاختفاء"[4]. ويعتبر أن الدلالة النسقية ذات دلالة ثقافية مرتبطة بالجملة الثقافية.

5 - الجملة النوعية: الجملة الثقافية

يتضح أن المنطق المتحكم في الغدامي هو التقابل بين النوع الأدبي والنوع الثقافي.

الجملة الثقافية هي النوع المقابل للجملتين النحوية والأدبية.

لا يعرض أسس هذه الجملة بل يجعلها مشروطة بأنواع الدلالات السابقة: النحوية، الأدبية والثقافية مشيرا إلى أن الثقافة هنا مأخوذة بدلالتها الأنثروبولوجية[5].

6 - المؤلف المزدوج:

إن الثقافة ـ ويصح هنا أن نتحدث عنها كخلفية ـ لم تعد كما نفهم ذلك من خلال قول الغذامي، مجرد موجه بل مؤلفا حيث نقرأ: "كل ما نقرأ وما ننتج وما نستهلك هناك مؤلفين إثنين/ أحدهما المؤلف المعهود، مهما تعددت أصنافه كالمؤلف الضمني والنموذجي والفعلي والآخر هو الثقافة ذاتها، أو ما أرى تسميته بالمؤلف المضمر"[6]. وهو ما يسميه بالمؤلف النسقي. إنه مؤلف مزدوج: مؤلف معهود ومؤلف ثقافي مضمر.

ثانيا: النقلة في المفهوم - النسق الثقافي

يطرح ثلاثة أسئلة مركزية: ما النسق الثقافي؟ كيف نقرؤه؟كيف نميزه عن سائر الأنساق؟

يكتسي مفهوم النسق دلالة خاصة يحددها فيما يلي:

1 - يتحدد في وظيفته، وليس عبر وجوده المجرد. والوظيفة النسقية هاته تتخذ أربع مواصفات:

أ – نسقان يحدثان معا وفي آن، في نص واحد أو في ما هو بحكم النص الواحد.

ب – يكون المضمر منهما نقيضا ومضادا للعلني. ذلك أن النص لا يدخل ضمن النقد الثقافي ما لم يكن فيه المضمر من تحت العلني.

ج – لا بد أن يكون النص جميلا ويستهلك بوصفه جميلا لأن الجمالية أخطر حيل الثقافة لتمرير أنساقها وإدامتها.

د – لا بد أن يكون النص جماهيريا ويحضى بمقروئية عريضة، وذلك لكي نرى ما للأنساق من فعل عمومي ضارب في الذهن الاجتماعي والثقافي.

2 – ضرورة قراءة النصوص والأنساق من وجهة نظر النقد الثقافي. فالدلالة النسقية هي الأصل في النقد الثقافي، إنها أداة للكشف والتأويل.

3 – النسق كدلالة مضمرة ليست مصنوعة من المؤلف بل الثقافة ومستهلكها، جماهير اللغة من كتاب وقراء "يتساوى في ذلك الصغير مع الكبير والنساء مع الرجال والمهمشين مع المسود"[7].

4 – النسق ذو طبيعة سردية، خفي ومضمر وقادر على الاختفاء دائما ويستخدم أقنعة جمالية لغوية.

5 – الانساق الثقافية: تاريخية أزلية راسخة لها الغلبة دائما، وعلامتها هي اندفاع الجمهور إلى استهلاك المتوج الثقافي.

6 – الجبروت الرمزي ذي طبيعة مجازية كلية وجماعية، يقوم بدور المحرك الفاعل في الذهن الثقافي للأمة، إنه المكون الخفي لذائقتها ولأنماط تفكيرها وصياغة أنساقها المهيمنة.

7 – ضرورة وجود نسقين متعارضين: يقصد الخطاب (وليس النص) أي نظام التعبير والافصاح سواء في نص مفرد أو طويل مركب أو ملحمي أو في مجموع إنتاج مؤلف ما أو في ظاهرة سلوكية...

ثالثا: النقلة في الوظيفة - وظيفة النقد الثقافي

يدعونا الغذامي في هذه النقلة إلى ضرورة الانتقال من نقد النصوص إلى نقد الأنساق الثقافية وهنا تأتي وظيفة النقد الثقافي من كونه نظرية في نقد المستهلك الثقافي (وليست في نقد الثقافة هكذا بإطلاق، أو مجرد دراستها ورصد تجلياتها وظواهرها)، مع العلم أن مجال نقده للنصوص الأدبية في القسم الثاني كمجال تطبيقي (وهذا هو النقلة الأخيرة والتي شغلت حيزا كبيرا في الكتاب)، لم يستطع الإلمام بالبناء الثقافي الذي يؤطر النص، ونعتقد أن هذه المسألة نقودنا إلى بعض الملاحظات حول مشروع الغذامي.

III - ملاحظات حول "مشروع النقد الثقافي":

لقد سعى العديد من الهمتمين بالنقد في الأدب العربي إلى إبداع "قول" فيما استجده الغذامي في الساحة النقدية العربية، وبين ناقد[8] لهذا المشروع النقدي "الجديد"، وبين مدافع عنه ومنبهر به، نتوقف أساسا على مدح الدكتور السعودي مصطفى الضبع لمشروع الغذامي، وذلك في عرضه أمام مؤتمر أدباء مصر[9]، والذي اعتبره "مشروعا وطرحا جديدا على مجتمعنا العربي" ، لأنه يمثل "استيعاب الناقد لكل ما طرح على الساحة العالمية في الموضوع"، ولأنه هام جدا يسعى إلى "مراجعة الكثير مما كرسه النقد الأدبي عبر عصور التراث العربي السابقة"، وقد وصل به الأمر إلى حد اعتبار هذا المشروع لا يحتاج إلى تبسيط لأن ما يميز "الطرح الثقافي بساطته وبعده عن التعقيد" مكتفيا بالاستشهاد بمقتطفات من كتاب الغذامي "النقد الثقافي"، ويحدد مميزات هذا المشروع في كونه:

التكامل: حيث يتكامل مع الأنواع النقدية الأخرى، وينبذ الهيمنة الانفرادية.

التوسع: حيث ينظر من زاوية النشاط الإنساني المتكامل منفتحا على أشكال متعددة من هذا النشاط.

الشمول: حيث يشمل كل مناحي الحياة.

الاكتشاف: يسعى إلى اكتشاف جماليات جديدة.

الحرية: فالنقد الثقافي يشترط حرية أوسع وساحة أكبر للحرية سواء في موضوعه أو في طرائقه.

وبغض النظر عن مساهمات أخرى تذهب في نفس الاتجاه، أي إلى تأكيد وتعداد مزايا مشروع النقد الثقافي لدى الغذامي، فإننا نسوق هنا بعض الملاحظات التي تبدو لنا جديرة بالتسجيل، لأن الوقوف على كل القراءات التي تمت طوال تسع سنوات منذ ولادة المشروع ليس هينا.

اعتقد أن الغذامي يريد أن يعرض نظرية جديدة دقيقة ومنهجية يسميها النقد الثقافي والتي يؤسس أغلب عناصرها ردا على النقد الأدبي: يؤسس جل عناصر نظريته من خلال عناصر معروفة في النقد الأدبي: المجاز، التورية... معتبرا أن النقد الثقافي أعم من النقد الأدبي، لذلك فالمؤلف مؤلفان معهود ومضمر (هو الثقافة)، لكن السؤال الجدير بالاهتمام هنا هو: لماذا ينبغي تجاوز النقد الأدبي إلى النقد الثقافي؟[10]

إن النقد الثقافي لا يمكن أن يكون بديلا للنقد الأدبي، وهو ما يحيل عليه الغذامي نفسه ولو بشكل عرضي لأن النقد الذي يوجهه للنقد الأدبي ليس نقدا فارغا بل هو محمول بنوع من الازدراء (حيث صب المهتمين بالنقد الادبي جام غضبهم على الغذامي)، حيث نقرأ "إننا نقول بمفهوم المجاز الكلي متصاحبا مع الوظيفة النسقية للغة، والإثنان معا مفهومان أساسيان في مشروعنا في النقد الثقافي كبديل نظري وإجرائي عن النقد الأدبي"[11]، وهنا نلاحظ الرغبة الخفية في مشروع الغذامي والمتمثلة في العمل على استبدال النقد الأدبي بالنقد الثقافي، لما لا وهو يتصوره بديلا. ويقول في مقدمة الكتاب: "وبما أن النقد الأدبي غير مؤهل لكشف الخلل الثقافي فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي، وإحلال النقد الثقافي مكانه، وكان ذلك في تونس في ندوة عن الشعر عقدت في 22 ستنبر 1997، وكررت ذلك في مقالة في جريدة الحياة(أكتوبر 1998)"[12].

ولا يسع القارئ لكتاب الغذامي إلا أن يلاحظ التناقض الصارخ الذي لا يستطيع الغذامي تجاوزه بين اعتبار النقد الثقافي بديلا وبين القول بالتداخل بين النقدين، حيث نقرأ في مقدمة الكتاب: "وليس القصد هو إلغاء المنجز النقدي الأدبي، وإنما الهدف هو تحويل الأداة النقدية من أداة في قراءة الجمالي الخالص وتبريره (وتسويقه) بغض النظر عن عيوبه النسقية"[13]، ولعل هذا يعود إلى أن ملهم الغذامي، الأمريكي ليتش فنسنت، لا يستطيع بدوره أن يلغي النقد الأدبي وأن يحل محله النقد الثقافي، لأنهما يشكلان بالنسبة له نقدان مختلفان، على الرغم من نقط الالتقاء والرتابط بينهما، وهو لا يدعو إلى الفصل بين النقدين فمتخصصي النقد الأدب يمكنهم ممارسة النقد الثقافي دون أن يتخلوا عن اهتماماتهم الأدبية، واتخذ هذا النظر في مشروع الغذامي شكلا مبهما غير واضح لأن النقد الثقافي في نظره يستدعي تغييرا في بنية المصطلح والمفهوم حيث يقول: " إن إعمال المصطلح النقدي الأدبي إعمالا لا يتسمى بالأدبي، ويتخذ له صفة أخرى هي الثقافي، يستلزم إجراء تحويرات وتعديلات في المصطلح لكي يؤدي المهمة الجديدة"[14]. وإذا كان النقد الثقافي يستدعي تغييرا في المصطلح، فكيف يمكن للنقد الأدبي أن يظل حاضرا في عمل الناقد وهو مجرد من بنيته المفاهيمية؟

كيف يتصور الغذامي الثقافة في مشروعه؟ أو ما طبيعة البنية الثقافية التي يتحدث عنها في مشروعه باعتبارها هي المؤلف وهي المتحكمة في كل انتاج أدبي؟

إننا لا نجد ـ كما أشرنا سلفا ـ أي تحديد لطبيعة الثقافي في مشروع الغذامي، بل اكتفى بالإشارة إلى أن المعنى المقصود هو المعنى الانثروبولوجي، وبهذا نتساءل: هل تشكل الثقافة بنية مستقلة بذاتها خارج أي شروط أخرى؟ هل يفعل الثقافي في المبدع خارج البني الأخرى التي تحكم تصوره؟

إن الثقافي لا يشكل إلا بنية من البنيات الأساسية التي تعتمل في مجتمع من المجتمعات وهي بنية لا تتشكل بمعزل عن البنى الأخرى، بل تتفاعل معها وتعد مكونا من مكوناتها. هكذا تغدو الثقافة بنية محكومة بشروط عدة، وقابلة للتطور وللتغير. وفي نفس الوقت لا يمكن تصور البناء الثقافي باعتباره بناء متحجرا وجامدا يفعل فعله خارج الزمان والمكان.

إن الإقرار بتحول وتغير البناء الثقافي المكون للهوية الفردية والجماعية معا، والتي تظهر في أي عمل إبداعي أدبيا كان أو غير أدبي، يجعل نظرية الغذامي في النقد الثقافي محط سؤال، ففي معرض حديثه عن دلالة مفهوم "النسق الثقافي"، وعن وظائفه

يعتبر أن الأنساق الثقافية "تاريخية، أزلية، راسخة لها الغلبة دائما"، أي أنها ثابتة تظل كما هي، وهذا ما ينفي عنها أي تغير أو حركة، لأن التغير والحركة في النسق الثقافي يهدم كل مشروع يقول بامكانية الكشف عن الانساق في النصوص وفي نقد المؤسسة، بكل بساطة لأن النسق بدوره سيغدو متحركا ومتغيرا، ومن الصعوبة الامساك به.

إن النسق الثقافي لا يمكن أن يظل معزولا وغارقا في ركن ما من العالم، شأنه شأن الخطاب الثقافي، بل هو ينشأ نتيجة عوامل تاريخية متراكمة ويتحول في نفس الوقت، وهكذا إذا كان الثقافي مشروطا بالتاريخ، فإنه غير بعيد أيضا عن السياسة، ذلك أن البناء الثقافي ككل يظل مشروطا بعوامل سياسية، حيث يمكن لعوامل سياسية معينة أن تفرض نمطا معينا من الثقافة، والعكس صحيح، يمكنها أن تلغي نمطا معينا، إلا أن هذا التداخل بين السياسي والثقافي لا يلغي الحضور المستمر للربط ولمجموع الممارسات الثقافية التي تميز مجتمعا عن الآخر[15].

إن الحديث عن جوهر ثابت للأنساق الثقافية يضرب بعرض الحائط الجوهر الحقيقي للأنساق الثقافية. فالنسق الثقافي في اعتقادنا هو نسق بشري، منتوج بشري مشروط بوضع الإنسان عبر الزمان والمكان. وهذا هو سر اختلاف الأنساق الثقافية. أي أن النسق الثقافي بنية مشروطة تاريخيا بتغيرات وطبائع الاس وأحوالهم. وعليه لا يصح عد النسق الثقافي نسقا قارا يقع وراء التاريخ، بل هو في صلب التاريخ مما يطرح ضرورة النظر إلى الأنساق باعتبارها أنساقا متغيرة ومتفاعلة فيما بينها، فهل يمكن القول على أن الأنساق الثقافية التي تحكم الأدب العربي هي أنساق منغلقة وبعيدة عن أي تفاعل مع غيرها؟

بمنظور الغذامي إذا كنا نسعى إلى حداثة عقلانية ومنفتحة فإن نسقا ثقافيا منغلقا على نفسه ومتحجر لا يقبل التغير ولا يصلح أن يكون معيارا لعقلانية منفتحة.

باستدعاء منظور ميشيل فوكو فإن النيق هو مجموعة من العلاقات، تستمر وتتحول في استقلال عن الأشياء التي ترتبط فيما بينها، وهذا ما يضعنا أمام دور النسق الثقافي في تشكيل الهويات وتحديدها.

إذا اعتبرنا النسق خارجا عن الذوات التي يفعل فيها، فهذا لا يعني أنه ثابت وأزلي، كما لا يعني أن النسق هو خطاب فوقي معزول عن أي تأثير فعلي، وهذا ما نتلمسه من قول الغذامي نفسه: "الدلالة النسقية ترتبط في علاقات متشابكة نشأت مع الزمن لتكون عنصرا ثقافيا أخذ بالتشكل التدريجي إلى أن أصبح عنصرا فاعلا".

وكملاحظة أخيرة نوجز الكلام في مسألة الجمالية والقبحية: إن سر اهتمام الثقافة الغربية بالجمل القبيحة، ودعوتهم إلى ضرورة تأسيس نظرية القبحيات في الأدب يكمن في اعتقادنا في الثورة على العقل والانفتاح على ما بعد الحداثة، وهو انفتاح يقابله بالأساس تغييرات حقيقية على جميع المستويات. وهذا ما يختلف كليا وجذريا مع واقع حالنا. فالثقافة الهامشية في الغرب فرضت نفسها على النقد وليس النقد هو من له الفضل في اكتشافها. والتعبيرات خارج المؤسسة، فرضت نفسها بغض النظر عن قيود المؤسسة والاقصاء الذي تمارسه في حق الثقافة المهمشة.

وعلى هذا الأساس نقول ما الفائدة التي تضيفها لنا هذه الجملة: "المتنبي مبدع عظيم أم شحاذ عظيم"، فوصفه في النقد الأدبي أنه مبدع عظيم لا يتعارض مع وصفه في النقد الثقافي بأنه شحاذ عظيم، لأن حال المتنبي هو حال رجل ترك لنا نصا، وبغض النظر عن وضعه هل هو مبدع أم شحاذ، فإن ما يهم هو النص وما يمتلكه من قيمة جمالية كانت أو غيره. إن هذه العبارة في نظرنا تختزل جزءا من مشروع الغذامي.

أبريل 2009

العلوي رشيد

الدار البيضاء ـ الألفة

ثانوية عبد العزيز الفشتالي

elalaouirachid2006@yahoo.fr



[1] - عبد الله الغذامي: "النق الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2000.

وقد ساهم الغذامي بالعديد من المساهمات المتميزة في النقد الأدبي، حيث أصدر على التوالي: (الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية)1985، و(تشريح النص) 1987، و(الموقف من الحداثة)1987، و(الكتابة ضد الكتابة)1991، و(ثقافة الأسئلة : مقالات في النقد والنظرية) 1992، و(القصيدة والنص المضاد)1994، و(المشاكلة والاختلاف) 1994، و(المرأة واللغة)1997، و(ثقافة الوهم : مقاربات من المرأة واللغة والجسد) 1998، و(تأنيث القصيدة والقارئ المختلف) 1999، و(حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) 2003.

[2] - النقد الثقافي، ن م (ص 83-84)

[3] - النقد الثقافي، ص 66-67.

[4] - النقد الثقافي، ص 72.

[5] - وقد شكل هذا القول مجالا للسجال، حيث سعى البعض إلى تجاوز النظرة الضيقة للثقافة كما يحددها الغذامي ويحصرها في مشروعه، ونخص بالذكر هنا مشروع صلاح قنصوة في كتابه "تمارين في النقد الثقافي" (دار مريت)، حيث حدد تعريفا للثقافة باعتبارها "جملة الفاعليات و المجالات الإنسانية التى تتبدى فى السلوك و التفكير معا مما ييسر تعلمه و نقله عبر الأنساق و النظم الإجتماعية"، في حين أن الغذامي يكتفي بالإشارة إلى القول على أنه يتخذ المعنى الانثروبولوجي للثقافة، وكأن مجال الانثروبولوجيا واحد لا يخترقه أي اختلاف أو تعدد. ويحدد قنصوة بعد ذلك ثلاث مستويات للثقافة:

* ثقافة الجلد: وتتضمن العرق و الدين و اللغة.

* ثقافة المشترك: وتتعلق بالمتصل القومى.

* الثقافة المعاصرة للمجتمع أو الأمة.

كما أعطى معنى للنقد الثقافى باعتباره "ممارسة أو فاعلية تتوفر على درس كل ما تنتجه الثقافة من نصوص سواء كانت مادية أو فكرية"، و يعنى النص هنا كل ممارسة قولا أو فعلا، تولد معنى أو دلالة. وفي الجانب التطبيقي (القسم الثاني) ركز على: نقد الأساطير الثقافية (الأوهام)، نقد الأصولية و مقولة صراع الحضارات. هكذا فنحن أمام نقد ثقافي من نوع آخر، لا يشترط الانتقال من نقد النصوص إلى نقد المؤسسات، بل يتجاوز إطار النص الأدبي الذي يركز عليه الغذامي في الجانب التطبيقي من بحثه.

[6] - النقد الثقافي، ص 75.

[7] - النقد الثقافي، ص 79.

[8] - إن النقد الذي خص به النقاد مشروع الغذامي، ليس بهين، بل اتخذ مسارات لا نعتقد أنها ستفيدنا هنا.

[9] - مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم، المنيا 23 – 26 دجنبر 2003.

[10] - وهو سؤال أساسي بالنسبة للمدون مسعود عمشوش، ولأن التدوين لا يعتد مرجعا موقنا منه، فإننا لا نستطيع أن نبني على نصه المقالي باعتباره أحالة مرجعية.

[11] - النقد الثقافي، ص 69.

[12] - النقد الثقافي، ص 8.

[13] - النقد الثقافي، ص 8.

[14] - النقد الثقافي، ص 61 – 62.

[15] - بصدد هذه النقطة بالذات نستحضر سجالات فيصل دراج التي نشرها في كتابه "الثقافة والسياسة".

عرض لفلسفة هيجل

عرض لفلسفة هيجل

العلوي رشيد

فلسفة هيجل: مضمونها، أنواعها:

تنقسم فلسفة هيغل إلى ثلاثة ميادين معرفية كبرى، كانت محط اهتمام جل الفلاسفة ويتعلق الأمر ب: علم المنطق؛ فلسفة الطبيعة؛ فلسفة الروح؛ وهي ميادين مترابطة في نسق فلسفي متميز يجعل المهتم ينتقل من مستوى إلى آخر ليتمكن من رسم صورة واضحة على هذا النسق الفلسفي. لذلك ففلسفة هيجل هي فلسفة نسقية بامتياز. وتشترك هذه الميادين الثلاث في موضوع واحد، أي انها تدرس نفس الموضوع لكن في مستويات مختلفة وينعلق الأمر ب: "الفكرة الشاملة" أو "الفكرة المطلقة" أو إن شئنا القول "العقل" في صور متنوعة: "العقل" محضا في المنطق، و"العقل" في حالة تخارج في فلسفة الطبيعة، و"العقل" حين يعود إلى نفسه في فلسفة الروح.[1]

فعلم المنطق هو دراسة الفكرة الشاملة لذاتها، معرفة نفسها بنفسها، وهي الحقيقة عينها، لأن الحقيقة "هي أن الفكرة الشاملة لا تتضمن شيئا آخر يفكر فيه سوى الفكرة الشاملة نفسها "[2]، وقد أضفى هيغل ها هنا غطاءا لاهوتيا إن صح القول على موضوع الفلسفة، لأن " ... موضوعات الفلسفة هي نفسها موضوعات الدين: فالموضوع في كليهما هو الحقيقة. بذلك المعنى السامي الذي يكون فيه الله هو الله وحده، هو الحقيقة .. " [3] .

ولا ينبغي أن يفهم أن وحدة موضوع أقسام "فلسفة هيجل (الفكرة الشاملة) تلغي التمايز / الإختلاف، بل على العكس تماما تقر به، فالفكرة المطلقة في علم المنطق هي الفكرة بشكل مجرد إطلاقي، تعي ذاتها بذاتها، وتعقل الأمور في نفسها، حيث أ = أ، "العقل" هو "العقل"، لكن في "فلسفة الطبيعة"، الفكرة المطلقة / الشاملة تخرج من ذاتها إلى الآخر. إنها "العقل" في حالة تخارج، نقيض حالتها الأولى وبالتالي ف "العقل" يغدو "لا عقل" أو "اللامعقول". أما في فلسفة الروح فتعود إلى نفسها، حيث الوحدة بين العقل واللاعقل، ويجمل ولترستيس هذا التمايز قائلا: "... المنطق يدرس الفكرة كما هي في ذاتها، وهذه هي الكلي (القضية). أما الطبيعة فهي الفكرة في الآخر، وهي ضد الفكرة في ذاتها، وهذا هو الجزئي (النقيض). أما الروح فهي وحدة المنطق والطبيعة وهذا هو المركب (الفردي)"[4].

وقبل مناقشة كل دائرة من هذه الدوائر، فإننا نسوق هنا ملاحظة جوهرية، ألا وهي أن هذه التفريعات / التقسيمات الثلاثية التي يعتمدها هيغل كطريقة في جل كتاباته بدون استثناء، إنما نابعة من قضية منطقية أساسية: القضية / نقيض القضية / التركيب.

ويعطي هيجل مفاهيم أخرى أكثر دلالة: الكلية / الجزئية / الفردية. ذلك أن الكلية تأخذ معنى الإيجابية (الشمولية)، والجزئية معنى السلبية، أما الفردية فهي المركب، ويعلق لينين عن تلك القضية قائلا: << ... ما يتبع انبساط الكلي والخاص (الجزئي) والمفرد، هو إلى حد ما مجرد و "عويص" >> و يضيف أن الشيء الاساسي عند هيجل هو أن "يسم الانتقالات" حيث في بعض الشروط: الكلي هو الخاص، والخاص هو الكلي " ليس فقط على "مستوى الترابط (ترابط لا ينفصم لكل المفاهيم والاحكام)، بل "على مستوى الانتقالات" أيضا (انتقال من مستوى إلى آخر) و على مستوى "تماثل المتناقضات"[5].

أولا - المنطق عند هيجل: موضوعه، أقسامه:

<< المنطق هو علم الفكرة الخالصة، بمعنى أنه علم

الفكرة في وسطها الفكري الخالص ... >>

موسوعة العلوم الفلسفية ص 79 فقرة 19.

لا يكتفي هيجل ها هنا بالقول أن علم المنطق يدرس الفكرة الشاملة وفقط، وإنما "علم الفكرة في وسطها الفكري..." وهنا أساس التمايز بين المنطق الهيجلي والكلاسيكي الذي يحصر موضوع المنطق في "دراسة الفكر كفكر"، إن هيجل يتبدى لنا ضد الشيء في ذاته "الذي ليس سوى شئ في ما بعد الفكر" وهي هنا لا تنطبق على الأشياء في ذاتها" كما يقول لينين: << عادة يفهم المنطق على أنه "علم الفكر"، "فقط شكل المعرفة" هيجل يدحض هذا المفهوم. ضد الشئ في ذاته" الذي ليس سوى شئ في ما بعد الفكر". أشكال الفكر في هذه الحال لا تنطبق على "الأشياء في ذاتها" ولكنها معرفة حمقاء تلك المعرفة التي لا تعرف الأشياء في ذاتها، ثم أليس الفهم شيئا في ذاته؟>> (دفاتر عن الديالكتيك ص 133). ويضيف هيجل أن " موضوع المنطق هو بصفة عامة، عالم ما فوق الحس، ودراسة هذا الموضوع تعني البقاء لفترة في هذا العالم " (الموسوعة ص 84 إضافة رقم 2 للفقرة 19)، لنلاحظ كيف قلب هيجل موضوع المنطق الذي ساد منذ اليونان مرورا بالقرون الوسطى إلى حين مجيئه. إن نظريته في المنطق - إن صح التعبير - لا تتجاوزها أية ثورة فكرية في عصره بل تظل متميزة، وكذلك الامر في جل ميادين المعرفة التي بحثها والتي يظل المنطق لديه العصب والركيزة الأساسية فبفضل "المنهج الجدلي" دخل إلى تلك الميادين من بابها الواسع، وقد عبر ماركس عن ذلك واعترف قائلا: << حين كنت أكتب الجزء الاول من "رأس المال" كان أول أبناء الجيل الجديد، أولئك الأدعياء المتهورون التافهون يتباهون أنهم ينظرون إلى هيجل نظرتهم إلى "كلب ميت" لذا بادرت وأعلنت صراحة أنني لست إلا تلميذا لهذا المفكر العملاق>> (كارل ماركس: "رأس المال") وبعده جاء لينين ليعلن: "لا يمكن فهم "رأس المال" وخصوصا فصله الأول فهما كاملا بدون دراسة وفهم كل منطق هيجل. إذن، ما من ماركس فهم ماركس بعد مضي نصف قرن عليه!!"[6].

والمنطق عند هيجل "علم الفكر: بقوانينه وأشكاله المتميزة"[7] تلك القوانين التي لا تنبثق إلا من خلال تأمل الواقع الفعلي، أرضها الواقعية، وهذه المقولة سيطورها فويرباخ ثم ماركس فيما بعد ليعطيا لها معناها المادي. ويتضمن المنطق عند هيجل باعتباره لحظة المباشرة:

I الوجود: والوجود لا يبدأ إلا من "اللا شيء" من العدم، يعطي لنفسه كل قواه للظهور. تماما كما يبدأ المكان في فلسفة الطبيعة من الفراغ. وهو بدوره ثلاثة أقسام:

أ_ الكيف: وينقسم بدوره إلى ثلاثة أفرع عبارة عن مثلثاث، حيث الفكر عند هيجل عبارة عن سلسلة من التصورات، وهو نوعان: الفكر بالمعنى الواسع الذي يشمل التصورات العقلية الخالصة أو المقولات ونقول المقولات المنطقية تميزا لها عن ما عرف اليوم بالمقولات الإقتصادية (التي ظهرت مع الإنجليزي ريكاردو). والخلايا الأولى للفكر هي مجموعة من مثلثات صغيرة تتفرع إلى أضلع:

الضلع الأول وهو مباشر، والضلع الثاني وهو متوسط والضلع الثالث، وهو الجامع بين الضلعين الأول والثاني.

وليس بإمكاننا أن نعرض كل هذه التفاصيل لكون موضوعنا ليس موضوع دراسة المنطق الهيجلي، بل إن في نيتنا فقط أن نعطي مجرد نظرة عامة حوله.

ب الكم: شأنه كذلك شأن الكيف ينقسم إلى: الكم الخالص الذي يمر بمرحلة الكم الخالص ذاته ليصل إلى تحديد الكم مرورا بالمقدار المنفصل والمتصل، والمرحلة الأخيرة هي التي تنقلنا إلى العنصر الثاني من الكم الذي هو: الكمية، وتمر كذلك عبر مراحل ثلاث لتنقلنا إلى العنصر الثالث من الكم الذي هو الدرجة... وهكذا إلى أن نصل إلى المستوى الثاني من منطق هيجل: الماهية بفضل آخر عنصر من الوجود: اللامتناهي الحقيقي.

II الماهية: (لحظة التوسط) هي دائرة التوسط: فلا نستطيع أن نصل إليها إلا من خلال الآخر أي من خلال الوجود الذي هو الحقيقة الواقعية أو الوجود بالفعل. وتتفرغ عنها مثلثاث أخرى تتفرع عنها أقسام أخرى إلى أن نبلغ فكرة التفاعل التي هي مركب (الجوهر والعرض) و (السبب والنتيجة) التي تنبثق منها لحظة المركب.

III - الفكرة الشاملة: وهي مركب المتوسط والمباشر، أي الوجود والماهية، يتفرع عنها الفكر الذاتي والفكر الموضوعي والفكرة. وعلى غرار سابقاتها مثلثاث تخرج منها مثلثاث أخر.[8]

وإذا كان المنطق قد بدأ بدراسة "الفكرة المطلقة" من حيث هي هي - كما أشرنا فإنه قد انتهى بها، ذلك أن آخر مثلث في الفكرة الشاملة هي "الفكرة المطلقة" التي تمثل داخل هذه الدائرة، مركب "الحياة: (الكلي أو القضية) و "المعرفة" (الجزئي أو النقيض) وقد انتهى بها لأنها كما يقول ولترستيس (ص 404) فقرة 408: <<المقولة التي تكشف عن نقيضة تحتاج إلى تجاوزها داخل دائرة الفكر الخالص، بحيث ننتقل إلى مقولة أعلى، فهي ليست تجريدا من جانب واحد، وإنما هي الكل العيني، هي الحقيقة النهائية. ومن ثمة فإننا ننتقل من دائرة الفكر الخالص، أي من دائرة المنطق إلى دائرة الطبيعة>>. فكما سبق وأن أشرنا في البداية أن فلسفة هيجل تدرس "الفكرة المطلقة" في جميع فروعها، انتهى بها المنطق لتبدأ بها الطبيعة، وحتى آخر قسم، بل آخر مثلث في مركب الطبيعة والمنطق (فلسفة الروح)، الذي هو الفلسفة تنتهي بهذه الفكرة، وذلك لسبب بسيط على حد تعبير هيجل، هو أنه لا شيء يدرك الفكرة المطلقة سوى الفكرة المطلقة ذاتها، ويعلق إنجلس على ذلك قائلا: << ... في كتابه المنطق استطاع أن يصنع بدوره من هذه النهاية بداية، بمعنى أن النقطة النهائية هنا، ال "فكرة المطلقة" - وهي ليست مطلقة إلا لأنه لا يعرف البثة ما الذي يقول لنا عنها - "تستلب" في الطبيعة، أي تتحول إليها (إلى الطبيعة)، وتعود من جديد فيما بعد إلى نفسها في الروح أي في الفكر والتاريخ. ولكن في نهاية كل فلسفة، لا يمكن لعودة كهذه إلى نقطة الانطلاق أن تتم إلا عبر وسيلة واحدة، ألا وهي: افتراض أن نهاية التاريخ هي أن تتوصل البشرية تماما إلى معرفة هذه ال "فكرة المطلقة"، وأن تعلن أن هذه المعرفة لل "فكرة المطلقة" قد بلغت نهايتها في فلسفة هيجل. ومن هنا يعلن بمثابة حقيقة مطلقة كل المحتوى المعتقدي لمنظومة هيجل، الأمر الذي يناقض منهجه الديالكتيكي...>>[9].

ثانيا - فلسفة الطبيعة عند هيجل:

إذا كانت "الفكرة المطلقة" في المنطق تعرف نفسها بنفسها، وتكتفي بذلك وهي المقولة التي بدأ بها هذا الفرع النظري بحثه، وانتهى بها، فإنها باعتبارها نهاية بحث المنطق، تمثل بداية "فلسفة الطبيعة"، لكن الأمر يختلف جوهريا، فإذا كانت في المنطق، هي "الفكرة" منظورا إليها من الداخل، فإن في هذه الدائرة الوسطى "فكرة مطلقة" منظور إليها من الخارج، أي أنها في حالة تخارج.

إن الطبيعة تمثل النقيض المباشر للكلية (القضية) أي للمنطق، وبما أنها كذلك، فإنها جزئية وسلبية. ويعتبرها إنجلس ولينين "المنهج الجدلي" مطبقا على الواقع الفعلي، ذلك أن أسس ومبادئ هذا المنهج معروضة في "المنطق" كأفكار، لكنه في الطبيعة يتخذ طابع التجسيد طابع الحلول والتموضع، وقد حاول هيجل أن يطبقه على الميكانيكا والفيزياء والعالم الحيواني، عالم الكائنات الحية (أو العضوية)، إنه متجسد في الأشياء وليس في الأفكار المجردة (كما في المنطق)، نراه في الكائنات العضوية، وفي كل أجزاء الطبيعة متمكنا بذلك من صياغة قوانين المعرفة العلمية، التي ستشكل أسس العلوم الطبيعية والبيولوجية و الجيولوجية...، وهذا هو واقع الحال في فلسفة الروح، يطبع المنهج الجدلي على عالم التنظيمات الإجتماعية والسياسية والقانونية... مستنبطا الدولة من المجتمع المدني، وهذا الأخير من الأسرة، كما استنبط فكرة الحيوان من النبات في الطبيعة. والقول بأن هيجل قد أسس وساهم في بناء نسق المعارف العلمية واع بنفسه "فليس ثمة علم واحد لم يتأثر بفلسفة هذا العبقري".

إن فلسفة الطبيعة تبدأ بمقولة المكان الفارغ، كما بدأ المنطق بالوجود مستنبطا من الفراغ / العدم، فالمكان في الطبيعة عدم، تجريد وفراغ كاملين، فهو"ليس له في ذاته أي طابع ولا مظهر ولا سمة ولا تحديد من أي نوع إنه اللاصورة" عبارة عن "فراغ متصل ومتجانس خال تماما من أي تمايز داخله"[10]. نتحدث عن المكان كجزء من مثلث ضلعاه الآخران: "الزمان" و"المادة" وهو الحد الأدنى في الطبيعة، أما حدها الأقصى، فهي نهايتها، انتقالها إلى الروح حيث تعود "الفكرة الشاملة" إلى ذاتها / نفسها. وباعتباره كذلك (أي فارغة من أي محتوى) فإنه (أي المكان) نقيض الفكرة، إنه نقيض القضية، يسير في سيرورة من العمليات إلى أن يعقل ذاته. حين بلوغه الكائن الحي الذي يعتبر نهاية "فلسفة الطبيعة" هذا الكائن المستنبط من النبات طبعا، وكي نوضح هذا الأمر فإن بإمكاننا القول على نحو ما جاء في الجزء الثاني من الموسوعة (فلسفة الطبيعة) أن الطبيعة تنقسم إلى ثلاثة لحظات:

1 الآليات أو الميكانيكا: أو ما يسمى فيما بعد ب "علم الميكانيكا".

2 الطبيعيات أو الفيزياء: علم الفيزياء والطبيعة.

3 العضويات: وهي ثلاثة مراحل: * الكائن الحي البيولوجي (علم البيولوجيا) * الكائن الحي النباتي * الكائن الحي الحيواني. إن الكائن الحي أو الذرة الحية، هي مفتاح المرور إلى "فلسفة الروح".

ثالثا فلسفة الروح: موضوعها، أنواعها:

لا تشكل "فلسفة الروح" استثناءا من نسق هيجل الفلسفي، ولو كان ذلك واقع الأمر ما كان بالإمكان الدخول في هذه التفاصيل حول المنطق وفلسفة الطبيعة. إن فلسفة الروح هي على غرار اللحظات السابقة عليها، تمثل "المركب في المثلث"، إنها مركب القضية التي هي المنطق، ونقيضها الذي هو الطبيعة، تبحث أيضا "الفكرة الشاملة" والمنهج الجدلي هنا مجسد في الواقع، في عالم التنظيمات الإجتماعية والسياسية والقانونية، (الدولة والاسرة والمجتمع المدني) وعالم النفس والذهن والوعي، وعالم الفن والدين والفلسفة.

فالإنسان وجود روحي، أو كائن حي عاقل ذو فكر خالد، وهو جزء من الطبيعة، إنه إجمالا وجود مادي محسوس، ووجود روحي / فكراني. ومن المعلوم أن الفكر عند هيجل هو المحدد هو أصل كل شيء في هذا العالم، والروح هنا تبحث هذا الوجود الفكري في الإنسان قبل أن تبحث الإنسان ذاته، وهذه هي مملكة الروح. إن هذا القسم من فلسفة هيجل يبحث في تجلي الفكر أو المطلق في الإنسان، وذلك لا يتم إلا بواسطة عملية جدلية طويلة وشاقة، وهيجل هنا يبدأ من أبسط المراحل من أدناها، كي يبلغ تحققه الكامل تدريجيا، بفضل المنهج الجدلي. وتنقسم فلسفة الروح إلى ثلاث دوائر كبرى: * الروح الذاتي * الروح الموضوعي * الروح المطلق.

I الروح الذاتي : يدرس الروح الذاتي بالأساس العقل البشري من الناحية الذاتية أي كعقل فردي أو عقل الذات الفردية في مستويات ثلاث:

- النفس: ويهتم بهذا المستوى ما يسمى بعلم الأنثروبولوجيا وهو ثلاثة أقسام: النفس الطبيعية، وتأتي من الفراغ كما يأتي الوجود في المنطق من العدم أو كما يأتي المكان من اللاشيء من الفراغ هو أيضا، ذلك أنها أول مقولة في الروح الذاتي لا بد أن يبرهن على ذاته من خلال ذاته، إنها عبارة عن فراغ متجانس للفكر. وتدخل فيها: الخصائص الطبيعية لهذه النفس كشيء إيجابي أو كقضية تمثل التحويلات الفيزيائية نقيضها أو جانبها السلبي ثم الحساسية (تظهر من خلال التمييز الداخلي الضمني بين الوجود المباشر للنفس وبين مضمونها) كجانب إيجابي وسلبي في آن معا. والوعي الحسي هو الوعي الذي تقدم لنا فيه الحواس موضوعات خارجية.

النفس الشاعرة أو الحاسة: تمثل النفس الجانب السلبي المتقلب أما الإحساسات فتمثل الجانب الإيجابي، لكن هذه الأخيرة تدرك نفسها أنها جزء من النفس عامة، لهذا السبب تكون لدينا النفس الحاسة أو الشاعرة، والشاعرة هنا بمعنى التي تشعر. وهي أولا في مباشرتها ذلك أن النفس موجودة في كل موجود قبل أن يشعر بها فمثلا الجنين في داخله نفس، والأم هي التي تحس بذلك وليس الجنين، وكذلك حالة التنويم المغناطيسي، فالمريض لا يشعر، ولكن المنوم هو الذي يشعر،لأن نفس المريض مندمجة في نفس المنوم. وعندما يشعر المرء بالنفس فهذا مستوى آخر من النفس الشاعرة إنه جانبها المتوسط للنفس الحاسة في مباشرتها والعادة. وفي هذا التوسط يدرك الأنا نفسه. أما العادة كمركب المستويين أعلاه فهي الكلية الصورية للأنا عليها أن تتجلى في جزئيات، ولا تظهر إلا ككلية في صورة عددية أي تكرارا لوحدات الإحساس، والشعور، والنشاط ..

- النفس الموجودة بالفعل إن النفس المتحققة هنا هي الأنا أو الذات الفردية، إنها بتعبير آخر تلك المرحلة من مراحل الروح التي تتحقق فيها النفس من أن مضمونها ليس شيئا غريبا عنها. وهنا ينتقل هيجل من الأنثروبولوجيا إلى الفينومينولوجيا أو الوعي.

- الوعي ويدرسه بالأساس علم الفينومينولوجيا: وقد قدم هيجل أفضل عرض في كتابه "ظاهريات الروح" أو ما يسمى ب "فينومينولوجيا العقل"[11]، ويتناول في هذا الكتاب ستة محاور كبرى: - الوعي الوعي بالذات - النطق - العقل - الدين - المعرفة المطلقة. الترجمة التي أشرنا إليها لا تشتمل إلا على الفصلين الأوليين (الوعي والوعي بالذات). والوعي "وعي بالموضوع من جهة وبنفسه من جهة أخرى، أي بما ينزل عنده منزلة الحق وبالمعرفة المتحصلة لديه عن هذا الحق".[12] ويضيف هيجل في إطار تعريفه للوعي (المرجع الأخير ص 73) قائلا: " ...ذلك أن الوعي يدرك شيئا ما، وهذا الموضوع هو الماهية، أو هو الشيء في ذاته، ولكنه أيضا الشيء في ذاته بالنسبة إلى الوعي... فنحن نرى أن الوعي له الآن موضوعان: أحدهما هو الشيء الأول في ذاته وآخرهما هو الكون للوعي لهذا الشيء في ذاته. هذا الموضوع الأخير يبدو للوهلة الأولى أنه انعكاس للوعي في [مرآة] نفسه: تمثل منه لا لموضوع بل لمعرفة بالموضوع الأول ليس إلا. بيد أن الموضوع الأول ... يتغير في خلال هذه الحركة، فلا يعود هو الشيء في ذاته بالنسبة إليه، بحيث يغدو ذلك الكون له لهذا الشيء في ذاته هو الحق" (الموسوعة ص 73). والوعي في هذا القسم ثلاثة أنواع:

1-الوعي الأصلي، 2-الوعي بالذات، 3-العقل:

1-الوعي الأصلي: يمر بثلاثة مراحل: - الإدراك المباشر للموضوع الفردي ويشكل ما يسميه هيغل: الوعي الحسي. (وهو موجود، ينسب صفة وجوده إلى الموضوع فقط، ولم يدرك أي شئ عن الموضوعات الأخرى. ولو أنه يدرك ذلك لأصبح شيئا آخر غير الوعي الحسي. ويسمى الوعي بالحواس، وعي يرتكز فقط عما يدور حوله دون غيره). وما دام الوعي الحسي يقتصر فقط على ما هو محسوس ظاهري في الشىء، فإنه بذلك ناقص وسلبي، يستدعي ظهور نوع آخر من الوعي، ألا وهو الإدراك، وهو كذلك حسي. وبذلك فالمرحلة الثانية هي الإدراك الحسي. لكنه يكشف أيضا عن تناقض ذاتي (بين الكلي والفردي) ومن هنا تظهر ضرورة وجود نوع أعلى منه. هو الفهم.

- يظهر الفهم كما قلنا من تناقض الإدراك الحسي. والفهم ليس هو العقل لأن الفهم يضع تعدد الحس على أنه مظهر في جانب، كما يضع الكلي في جانب آخر بوصفه الحقيقة الواقعية. وهي المرحلة الأخيرة من الوعي الأصلي.

2-الوعي الذاتي: إن الوعي الأصلي ينظر إلى الموضوع على أنه مستقل عن الذات (وجود غريب لا يمكن النفاذ إليه: أي سلب الذات أو اللا ذات) أما الوعي بالذات فهو نوع جديد. على نقيض الوعي الأصلي يرى في الموضوع نفسه ولا ينظر إليه على أنه مستقل أو غريب. والذات هنا ذات وهي نفسها. والوعي الذي يدرك الذات (كالإنسان) هو وعي بالذات أو الوعي الذاتي. ذلك أن الحيوانات على سبيل المثال لا تمتلك وعيا ذاتيا لأنها لا تدرك ذاتها بوصفها ذات. والوعي الذاتي يتطور في ثلاثة مراحل أيضا: * الميل الفطري أو الرغبة الغريزية * الوعي الذاتي المعرفي * الوعي الذاتي الكلي

وفي المرحلة الأخيرة فقط يدرك الوعي الذاتي ذاته بوصفها وحدها الوجود المستقل وينفي ويلغي استقلال الآخر. والعبد ليس وعيا ذاتيا لأن حريته مسلوبة وبالتالي استقلاله الذاتي ملغي (وكل استلاب للذات، يعني إلغاء لها، انعدامها وهنا وجب نبذ العبودية والرق)[13] ووعيه يبقى في مرحلته الأولى أي في مرحلة الوعي الأصلي فحسب.

3 العقل: إن مبدأ العقل هو مبدأ هوية الأضداد. حيث الموضوع متميز عن الذات، لكنهما متحدان، إن العقل هو وحدة الوعي الأصلي والوعي الذاتي، أي وحدة الحالة التي يكون فيها الموضوعي الذاتي مستقل ومتميز عن الذات ونقيضه الذي يصبح فيه الموضوع متحد مع الذات في هوية واحدة. هذا فالعقل كمبدأ وحدة الضدين، يتضمن تمييز الموضوع عن الذات ومتحد معها في وقت واحد إنه "الهوية في التباين" أو "الوحدة في الإختلاف".

- علم النفس / الذهن: وتعني كلمة الذهن عند هيجل: الوجود الروحي بصفة عامة (الذي يبدأ في تطوره من الأنثروبولوجيا ويستمر على طول فلسفة الروح كلها). والوجود الروحي بصفة خاصة (بوصفه أعلى مرحلة من مراحل الروح الذاتي). إن الذهن هو موضوع علم النفس من وجهة نظر هيجل (وربما لا يبقي أي أساس قيمي لهذه النظرة في علم النفس المعاصر) وهو ثلاثة أنواع:الذهن النظري أو المعرفي: إنه الذهن في مباشرته ومضمونه موجود في البداية عثر عليه موجودا، والعقل يتصرف هنا في شيء موجود، أي أنه (العقل) حين يجد شيئا موجودا أمامه بالفعل، فإنه لن يتوانى عن معرفة هذا الشيء الذي وجد أمامه قائما. وهذا الشيء الموجود هو الذهن النظري، يتطور وفق ثلاثة مراحل:

الحدس: مرحلة المباشرة في الذهن النظري ، وهو ما يؤسس المعرفة الحدسية، التي يعتبرها، البعض بمثابة الحقيقة، لكن بالنسبة لهيجل الحدس هو أدنى مرتبة في الذهن النظري فصحيح أنه قد يتضمن حقيقة، لكنها حقيقة لا حقيقية، أي الحقيقة في صورة اللاحقيقة، إنه (الحدس) مجرد انطباع ذاتي للفرد والحدس يمارس عن طريق: الإنتباه، والشعور.

التمثيل: أي تمثيل الشيء الذي يظهر كمعرفة، يسير في مراحل ثلاث كذلك: - الإسترجاع - الخيال الذاكرة. والذاكرة تمثل مرحلة انتقال من التخيل المحض إلى الفكر الأصلي.

التفكير: الإنتقال إلى هذه المرحلة هو انتقال يتم عبر مزج الحدس والتمثيل، فالحدس كلي والتمثيل جزئي.

والفكر عند هيجل هو وحدة الفكر نفسه والوجود (ذلك أن هيجل هنا ينتقد كانط الذي يقيم فصلا بين الفكر والوجود) أي وحدة الفكر ذاته مع الآخر. ويلخص هيجل نظرته للفكر في قوله: "نحن نعرف أن ما يدل عليه الفكر موجود، وأن ما هو موجود لا يكون كذلك إلا بمقدار ما يكون فكرا" وليس غرابة أنه ينظر إلى الفكر هنا كشيء حقيقي، كشيء هو الحق وليس الباطل، هو أن أصل الكل هو "الفكرة الشاملة" عينها.

- الذهن العملي أو الإرادة: إن الفكر هو أصل كل شيء، كما أن الكلمة في المسيحية هي أصل العالم، أصل كل شيء (هي الله متجسدة في عقول البشر) وما دام الفكر عند هيجل هو الذات أي أن موضوعه هو الذات لا غير، فإنه لا يرى في العالم شيء ماديا، بل شيء خلقه هو بفكره، والفكرة هنا هي "الله متجسدة في عقل هيجل" (وللمزيد من نقد الفكرة عند هيغل، يمكن الإستعانة بأطروحات فويرباخ في كتابيه: "أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة" و "مبادئ فلسفة المستقبل" بالاضافة الى نقد فلسفة الحقوق عند هيجل لكارل ماركس). والذهن العملي هو الإرادة، هذه الأخيرة التي تتطور وفق ثلاثة مراحل:

الحس العملي أو الشعور: وهي لحظة الذاتية في هذا القسم.

الدوافع والإختيار: وهي الموضوعية، أو النقيض - السلب.

السعادة: وهي الذاتية والموضوعية "كلية لأنها الأنا"، حيث الانا هوية خالصة أو كلية خالصة (مبدأ الهوية أنا = أنا).

إن الإرادة ليست هي حال المعرفة بل هما متمايزتان، والفرق بينهما هو أن المعرفة ليست محدودة بنفسها، في حين أن الذكاء بوصفه إرادة محدد مضمونه. والإرادة مباشرة ومضمونها في المباشرة شيء موجود عندها بالفعل. ولا بد لهذا الموضوع أن يكون كليا، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا بالسعادة لأنها الإشباع الكلي الذي تنشده الإرادة.

الذهن الحر: والروح الحر أو الذهن الحر هو أن تجعل الإرادة من نفسها موضوعا لذاتها، ذلك لأن الإرادة بما هي كذلك إرادة حرة، لأن الحرية تعني عدم التحدد عن طريق الآخر، أي ألا يحددها الآخر. إن الذهن الذي هو مرحلة انتقالية إلى الروح الموضوعي يعرف أن موضوعه هو ذاته هذه الاخيرة المحددة تحديدا ذاتيا (حرة) وهي بهذا لا متناهية ما دامت حرة.

II - الروح الموضوعي:

تمثل فلسفة الحق جوهر هذا المستوى الثاني من فلسفة الروح، وقد خصص كتاب "أصول فلسفة الحق" كاملا لهذا المستوى. لذا فالروح الموضوعي يبدأ بآخر فكرة وصل إليها الروح الذاتي، ألا وهي الإرادة، وموضوعه على غرار الأقسام السابقة من فلسفة الروح هو: دراسة وبحث الفكرة الشاملة بما هي كذلك.

إذا كان الروح الذاتي هو الروح منظورا إليها من الداخل، فإن الروح الموضوعي هو الروح / الفكرة منظورا إليه من الخارج، أو هو في حالة تخارج. الخروج إلى عالم تخلقه هي نفسها، وليس عالم الطبيعة، لأن هذا العالم موجود مسبقا؛ بل عالم التنظيمات الإجتماعية والسياسية والأخلاقية، عالم التقاليد والعرف والحقوق والواجبات الأخلاقية. إنه الحق في جانبه الصوري وجانبه المتعين، جانبه الموجود واقعيا، المادي، ومركبهما. الحق الذي يؤسس الأخلاقية الفردية والأخلاقية الإجتماعية أو الحياة الإجتماعية.

وتنقسم فلسفة الحق إلى ثلاث ميادين كبرى: الحق المجرد: ويتضمن : الملكية والعقد والخطأ.

الأخلاق الفردية أو أخلاق الضمير: ويتضمن: - الغرض النية والرفاهية الخير والشر.

الأخلاقية الإجتماعية أو الحياة الإجتماعية (الحياة الأخلاقية) أو الSITTLICHKEIT وتتضمن : - الاسرة المجتمع المدني الدولة. ويشكل هذا القسم الاخير جوهر الفكر السياسي الهيجيلي.

III. الروح المطلق:

وهو مركب الروح الذاتي والروح الموضوعي، وينقسم كمبحث إلى ثلاث ميادين كبرى:

1 – فلسفة الفن: وتتشكل من مجمل مساهمات هيجل في فلسفة الفن وأساسا محاضراته الشهيرة في الفن [14] والتي تنقسم إلى:

الفن وأنواعه: الفن الرمزي والفن الكلاسيكي والفن الرومانتيكي

الفنون الجزئية: والتي يعالج فيها: فن المعمار الرمزي وفن النحث الكلاسيكي وأخيرا الفنون الرومانتيكية والتي تنقسم بدورها إلى: فن التصوير والموسيقى والشعر.

2 – الدين: حيث يعالج الدين عامة والديانة المحددة التي تتفرع الى ثلاث اقسام: الديانة الطبيعية والديانة الرفدية والروحية وأخيرا الديانة المسيحية المطلقة. وهو الجزء الذي يشكل اساس فلسفة الدين وهو نتاج المجهودات التي تبلورت فيما بعد لدى هيجل في محاضرات في تاريخ الفلسفة التي نشرت بعد وفاته والتي ألقيت في السنوات ما بين 1930 و 1931.

3 – الفلسفة: والتي يعين لها مهمة دراسة الفكرة المطلقة تلك الفكرة التي بدأ بها في علم المنطق، فالفلسفة بالنسبة لهيجل هي فلسفة تبحث عن المطلق تبحث عن الفكرة التي ترى أن المطلق هو موضوعها لذلك يقول ولترستيس: "فالفلسفة هي معرفة الفكرة نفسها لأن ما يعرف هو الفكرة، وما يعرف أعني العقل الفلسفي قد انفصل عن الحسي، فهو فكر خالص أو هو الفكرة" (نفس المرجع فقرة 758). وكما قال هيجل "إن الفلسفة دائرة مغلقة تدور حول نفسها" (الموسوعة). إن الروح المطلق هو ما يشكل جوهر فلسفة التاريخ والدين والاخلاق والحقوق لدى هيجل، وإجمالا الفلسفة السياسية.

إن الفلسفة الهيجيلية تبدو كبناء متناسق البنيان، ولا يمكن الحديث عن جزء منه دون الالمام بالبناء النسقي ككل، إنها فلسفة نسقية بامتياز، وهذا ما حاول هذا العرض أن يقدمه.

ذ، العلوي رشيد

الحي الحسني

أبريل 2009

ثانوية عبد العزيز الفشتالي

elalaouirachid2006@yahoo.fr



[1] - " المنهج الجدلي عند هيغل " ص 15 16 تأليف إمام ع إ دار التنوير الطبعة الثانية سنة 1982 .

[2] - " موسوعة العلوم الفلسفية " ص 51 52 .

[3] - " الموسوعة " ص 75 الفصل الأول من علم المنطق .

[4] - ولترستيس " فلسفة هيغل " الجزء الأول : منطق هيجل ، ص 162 ترجمة إمام ع إ .

[5] - لينين " دفاتر عن الديالكيتيك " ص 202 تعريب إلياس مرقص دار الطليعة ، الطبعة الأولى عام 1981 . للمزيد من التعمق في هذه القضية أنظر الموسوعة ن وكتاب إمام ع إ " المنهج الجدلي عند هيغل " ص من 135 إلى 140 تحت ( أضلاع المثلث الجدلي ) .

[6] - المرجع السابق ص 205 .

[7] - الموسوعة ص 79 .

[8] - للمزيد من التفاصيل حول سير الجدل الهيجيلي والمنطق الهيجيلي عامة ، يمكن الإستعانة بالمراجع التالية :

" المنهج الجدلي عند هيجل " تأليف إمام ع إ . و " دفاتر عن الديالكتيك " لصاحبه لينين و " أتي دوهرينغ " / " فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية " ل: فريديريك إنجلس . و " فلسفة هيجل " ل ولترستيس ، خاصة الجزء الأول منه . و " رأس المال " لكارل ماركس . ثم المجلدات الثلاث التي يعرض فيها هيجل نفسه منظومته المنطقية تحت عنوان : " علم المنطق أو المنطق الكبير " .بالإضافة إلى " موسوعة العلوم الفلسفية " والتي عرفت ب " المنطق الصغير" .

[9] - إنجلس المرجع السابق ص 165 166 .

[10] - ولترستيس ، المرجع السابق ، ص 423 فقرة 432 .

[11] - وقد اعتمدنا نحن ترجمة مصطفى صفوان لهذا الكتاب ، ( مجرد الجزء الأول منه لأننا لم نتمكن من الحصول على الأجزاء الأخرى ) تحت عنوان : " علم ظهور العقل " دار الطليعة الطبعة الثانية 1994 .

[12] - الترجمة العربية ل " ظاهريات الروح " بقلم : مصطفى صفوان " ص 72 .

[13] - لقد خصص هيجل لعلاقة السيادة والعبودية فصلا كاملا من المحور الثاني في كتاب الظاهرات تحت عنوان : " استقلال الوعي بالذات وتبعيته ؛ السادة والعبودية " ترجمة مصطفى صفوان دار الطليعة بيروت الطبعة الثانية 1944 ص من 144 إلى 150 .

[14] - للإشارة فهذه المحاضرات ترجمها جورج طرابيشي ونشرت في دار الطليعة تباعا في اجزاء الطبعة الاولى سنة 1978.