samedi 8 août 2009

مفهوم الدولة عند عبد الله العروي

مفهوم الدولة[1] عند عبد الله العروي

العلوي رشيد

"في الدولة تتجمع جميع ينابيع السلطات" (5)

الكتاب شكلا:

كتاب عبد الله العروي: "مفهوم الدولة"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، اعتمدنا في هذا الموضوع على الطبعة الثامنة للكتاب الصادرة سنة 2006. يقع في 184 صفحة ويعالج مفهوم الدولة وما يطرحه من مشكلات نظرية على المستوى القانوني والفلسفي والاجتماعي والتاريخي، حيث يخصص الفصول الثلاثة الأولى لبحث هذا المستوى والفصول المتبقية لبحث مفهوم الدولة في الوطن العربي بإبراز جوهر النظرية التقليدية للدولة في هذه الرقعة الجغرافية، وجوهر الدولة العربية القائمة وأوجه المفارقات التي يطرحها هذا النمطين من الدولة.

ويستهل العروي كتابه "مفهوم الدولة"، بالحديث عن العلاقة بين الدولة والسلطة، مع أنه ينبغي التمييز بين السلطة والدولة، فالسلطة لا تفترض بالضرورة جهازا، إنها فعل يؤطر العلاقة بين الأفراد أو بين الفرد والمؤسسات. هكذا ففي الحديث عن السلطة الثقافية أو الاجتماعية لا نتحدث بالضرورة عن دولة أو عن مؤسسة. ألم توجد في التاريخ تنضيمات ما قبل الدول؟ هذا يقودنا عمليا إلى التساؤل حول الأشكال البدائية للدولة، أي جملة المؤسسات والسلط السائدة قبل ظهور الدولة.

في الفكر السياسي عامة يعتبر ظهور الدولة ـ المدينة[2] الشكل الأولي لظهور الدولة. لكن قبل هذا الحدث أليست هناك دولة أو أشكال ما قبل الدولة؟

"تواجهنا الدولة أول ما توجهنا كأدلوجة، أي كفكرة مسبقة، كمعطى بديهي، يطلب منا أن نقبله بدون نقاش (...) نقبل وجود دولة وضرورة الانقياد لأوامرها التي يشخصها دائما فرد غريب من: الشيخ، المعلم، الأب، ولا يجدي في شيء أن نتصور حالة سابقة لظهور الدولة".

يذهب العروي إلى أن التساؤل حول ما قبل الدول، أو "حالة سابقة لظهور الدولة" لن ينفعنا في فهم الدولة، ويماثل بين هذا وبين التساؤل حول حالة الكون قبل ظهور الإنسان، ذلك أن هذه الحالة لا نفع في إدراك فيزيولوجية الإنسان الحالي، وأعتقد أن هذه المماثلة لا تصدق، وحتى حالة الإنسان فهي حالة جدل بين الماقبل والمابعد. وإذا اعتبرنا أن حالة الكون لا تفيد فيجوز القول أن ظهور الإنسان معجزة أو شيء من هذا القبيل. وحتى الذين تصوروا حالة الدولة قبل ظهورها لطالما اعتبروا الأشكال البدائية أساسية وضرورية لتجاوز النظرة المثالية التي تعتبر نشوء الدولة في تطورها التاريخي لمن الأهمية بمكان وهذا ما سنبرزه فيما بعد. وفي مقابل هذا يفترض العروي أن الدولة "واقع مزامن للإنسان الذي نعرفه الآن، لأننا نريد أن نعرف الدولة التي يواجهها ذلك الإنسان لا غيره". وهكذا يخلص إلى أن:

* "الدولة إذن سابقة على التساؤلات حول الدولة"؛

* "أدلوجة الدولة[3] سابقة على نظرية الدولة"؛

* "أدلوجة الدولة هي وصفها على حالها وقبولها كمعطى أولي"؛

* "إن الدولة مجسدة دائما في شخص أو في أشخاص، فهي عرضة لآفاق الحياة البشرية"؛

* "الدولة حالة اجتماعية"؛

* "إن الدولة دائما مزامنة للفرد وللمجتمع ـ الفرد، الدولة، هذه المفاهيم متداخلة بالتعريف"؛

* "كل تفكير حول الدولة يدور إذن على محاور ثلاثة: الهدف، التطور، الوظيفة".

ويميز العروي هنا بين أربعة مناهج لبحث مفهوم الدولة: القانون، التاريخ، الفلسفة، الاجتماعيات. ويعتبر أن التداخل قائم بين هذه الميادين التي تدرس الدولة:

ü السؤال عن تطور الدولة، سؤال تاريخي، للمؤرخين.

ü السؤال عن وظيفة الدولة سؤال الاجتماعيات، لعالم الاجتماع.

ü السؤال حول هدف الدولة سؤال الفلسفة، للفيلسوف.

ويخلص في المقدمة إلى أنهلا يمكن "للفيلسوف أن يكون تطوريا ولا لعالم الاجتماع أن يكون استنباطيا ولا للمؤرخ أن يكون افتراضيا. لكل سؤال منهج ولكل منهج سؤال" (8). إنها تمايزات حقيقية، فلكل ميدان مجاله الخاص، لكن ألا يفترض بنا القول بجدلية في هذه الميادين وعلى الرغم من التمايزات؟

وسيعمل في الفصل الأول: "نظرية الدولة الإيجابية" على إبراز نظرية الدولة كأدلوجة أولا وينتقل إلى الحديث عن النظرية النقدية للدولة في الفلسفة الحديثة خاصة لدى هيجل وماركس، ويناقش هذه الرؤى بالعودة إلى فلسفة الأنوار واريك فايل وانجلس... وسيقف على الأجوبة التي قدمها الفلاسفة والمفكرون والباحثون على سؤال ما هي الدولة؟

السؤال حول ماهية الدولة، هو سؤال حول هدفها. فوضع الدولة خارجها يهدف إلى وضع نظرية في الدولة، في حين أن التفكير في مشاكل الدولة لا يهدف إلى التنظير: "إن التفكير في مشاكل الدولة شيء، وتقديم نظرية في الدولة شيء ثان. ما أكثر من فكر، وما أقل من نظر، في الموضوع" (11)

سيعرض لمقالتين "كان لهما تأثير واسع في مجرى التاريخ البشري"، ويتعلق الأمر ب: المقالة الأولى: (ص 12 – 13) والتي تقرر أن "الغاية المقدرة للبشر ليست من عالم المرئيات وأن الحياة الدنيا هي بمثابة تجربة يجتازها المرء ليعرف قيمته وما يستحق من جزاء في حياة أخرى محجوبة عنه الآن وغير متناهية. توجه الدعوة إلى الوجدان الفردي لكي ينفصل عن الحياة الدنيا الخادعة العابرة ويتهيا للحياة الآخرة، حياة السعادة الأبدية". وفيها يظهر تمفصل بين الهدف والمخاطب، فالمخاطب يتقيد بالغاية التي هي "السعادة الأبدية في عالم غيبي"، وبهذا فالدولة كتنظيم هو تنظيم عابر. "الدولة تنظيم اجتماعي، فهي اصطناعية"، لا يمكن أن تتضمن قيمة أعلى من قيمة الحياة الدنيا كلها. إنها بهذا موضوعة في خدمة الفرد لكي يحقق هو غايته، ولذلك ينظر إلى الدولة على أنها شرعية لتحقيق غايات الفرد. وإذا وقفت في وجه غايات الفرد تصبح لا شرعية. ومن الواضح أن هذه المقالة "لا تترك أي مجال معرفي تنشأ فيه نظرية خاصة بالدولة". ذلك أن هذه المقالة اتخذت أشكالا عدة من الرواقيين إلى أنصار القانون الطبيعي من أغسطين إلى فقهاء الإسلام" (13).

المقالة الثانية: (14-15) و "تقرر أن غاية الإنسان هي المعرفة والرفاهية والسعادة"، وأن الدولة " ظاهرة من ظواهر الاجتماع الطبيعي (...) إن الدولة الطبيعية تخدم المجتمع بقدر ما يخدم المجتمع الفرد العاقل".

والمطلوب من الدولة ـ حسب هذه المقالة ـ هو الحفاظ على الأمن في الداخل والسلم في الخارج، أي ردع العنف اللامعقول. ويقر أن الفلسفة العقلانية تهتم فقط بقضايا الدولة الخاضعة لقوانين الطبيعة التي هي قوانين العقل. ويمثلها: السوفسطائيون، الطبيعيون الرومانيون، وبعض فلاسفة الإسلام كإخوان الصفا وفلاسفة القرن الثامن عشر وليبراليو القرن 19. ويعتقد العروي أن هاتين المقالتين متعارضتان تمام التعارض وتتصارعان في:

ü الفلسفة اليونانية

ü داخل الفكر الإسلامي

ü في الفلسفة الغربية الحديثة.

وعلى الرغم من تعارضمها الظاهري، فإنهما متفقتان في الإشكالية: كلتاهما تقر بالتناقض بين الفرد والمجتمع من جهة، وبين الدولة من جهة أخرى.

في المقالتين تتعارض الدولة الفاسدة مع وجدان الفرد والدولة الصالحة في خدمة الفرد.

يستشهد العروي بإرنست كاسيرر في كتابه: "أسطورة الدولة" الذي ينطلق فيه من التمييز بين التفكير الأسطوري والتفكير العقلي (المنطقي) والتفكير بالمنطق يقتضي النظر إلى الفرد باعتباره حرا والنظر إلى الدولة ككيان اصطناعي أبدعه الفرد ليبقى دائما في خدمته. والفلسفة الحقيقية تبحث في الدولة العقلية، ويعتبر أن هذا الموقف منطقي تماما: "إذا انطلقنا من وجدان وأخلاق الفرد، لا نستطيع بحال أن ندرك موضوعية الدولة"، وهذا يعني أن للدولة وجود موضوعي، مما يتماثل مع قول وتصور هيجل. فالدولة "واقع أولي مزامن لكل ظاهرة إنسانية".

الأرضية الواقعية لكل بحث علمي هو أن ينظر إلى الدولة كظاهرة اجتماعية أساسية دون غيرها. ويورد العروي ما يلي: "لنضمن لكلمة دولة معنى السلطة العامة، سنرى توا أنها متلازمة مع المجتمع وحتى مع الفرد". ويعاب عليه أنه لم يفصل في هذه المسألة، لأن السلطة العامة نابعة من قلب المجتمع وبذلك لن تكون الدولة جهازا فوقيا، ويعرج على موقف أفلاطون من الدولة الذي يمكن تلخيصه في كون أفلاطون يسعى إلى مدينة فاضلة يكون على رأسها فيلسوف حكيم كنقيض للدولة الأثينية التي وضعت حدا لحياة أستاذه. والسبب في تصوره للدولة هو تمثله للتناقض بين الفضيلة والرذيلة، الخير والشر، العقل والجسم، الشهوة والتعقل، المصلحة والقيمة...

يقف العروي بتفصيل على موقف هيجل من الدولة ومعالجته لهذه المسألة فلماذا هيجل؟ لأنه يلخص أقوال أفلاطون وماكيافيلي، ويفنذ أقوال أغسطين، روسو وكانط. فعند هيجل "تتوحد كل الجداول القديمة، ومنه تتفرع المذاهب العصرية"، وهو "نقطة الوصل بين الفلسفة الكلاسيكية والفلسفة العصرية". إنه ما لا يمكن الاستغناء عنه.

تصور هيجل للدولة:

حاول أن يبرز موقف هيجل من المقالة الأولى، وذلك بجعله الدولة هي من يقرر حرية الفرد والذات، وليس هي من يقف أمام تلك الحرية، ويستشهد بقول هيجل: "يمكن أن نعتبر أن الدولة العامة تزداد كمالا كلما كان ما يترك لمبادرة الفرد، لكي يعمل فيه حسب رأيه الخاص، أقل أهمية مما ينجز جماعيا"، فالتناقض يتجاوز بالنسبة لهيجل. إن الدولة هي التي تحتمل التناقض وتتجاوزه. ورده على المقالة الثانية يتمثل في أن الدولة لا تقوم على التضحية، وليست في خدمة الفرد، لأنه لا يمكن تصور أخلاق فوق الدولة أو المجتمع فوق الدولة. وفي نفس الوقت وإن كانت الدولة غير مبنية على المصلحة فإنها لا تقف في وجه هذه المصلحة. ولكنها لا تتعداها بل هي تحتضن منظمات مكلفة بالسهر عليها.

يعرض العروي موقف هيجل من علاقة الدولة بالأسرة والمجتمع المدني، والدولة. فالدولة في خدمة الأثينيين معا، كيف لا وهي من صميمها؟ وفي هذا الترابط بين الدولة والمصلحة العامة تنبثق فكرة الحرية. فهيجل يقول: "مبدأ علم السياسة هو أن الحرية متيسرة فقط حيث يتمتع الشعب بوحدة قانونية داخل دولة". فالدولة تتولد حيثما يتوفر دستور يمنح للفرد حريته الذاتية، وهكذا يصح أن نقول مع هيجل لا وجود لدولة دون وجود دستور يقرر ويشرع الحرية الفردية. تلك الحرية التي لا يرى فيها ماركس غير حرية التملك، فالملكية الخاصة ستصبح مع انجلز أساس كل دولة. لقد آن الآوان في نظر العروي لطرح سؤال: ما الدولة عند هيجل؟

بدأ سؤال الدولة عند هيجل في كتابه: "دستور ألمانيا" حيث قارن بين الدولة الألمانية والانجليزية والفرنسية، واعتبر ألمانيا ليست بدولة بل هي مجرد مجموعة إنسانية ولا تملك تصورا عقليا: الدفاع عن الحدود مثلا.

سيتطور مذهب هيجل وسيصل إلى اقتراح تعريف: "الدولة هي الفكرة الأخلاقية الموضوعية إذ تتحقق، هي الروح الأخلاقية بصفتها إرادة جوهرية تتجلى واضحة لذاتها، تعرف ذاتها وتفكر بذاتها وتنجز ما تعرف لأنها تعرفه"، وهو تعريف معقد بالغ التجريد، والتعريف المجرد ـ حسب العروي ـ هو السهل البسيط. معتبرا أن الأمر لا يتعلق بدولة ما، بل بتعريف ينطبق على مفهوم الدولة عبر التاريخ من البداية إلى النهاية. وفي الأخير فإننا لا نفهم شيئا عن الدولة إلا بعد الارتفاع إلى التجريد والانتقال من الاجتماعيات والتاريخ والقانون إلى الفلسفة.

يعتبر هيجل أن فكرة ظهور الدولة فكرة عقلية وهي النظرية الوحيدة الممكنة عقليا.

إن تصور هيجل تصور مطلق للدولة: هي التجسيد العقلي لفكرة الدولة. والدولة التي تصورها هي النظرية الوحيدة الممكنة عقليا. وبعد عرضه لنظرية الدولة عند هيجل يتساءل: هل هذا التصور الذي يختزل الدولة "في الدولة في ذاتها" ينظر إلى الدولة كدولة عقلية علمية أم أن الدولة خرافية ـ أسطورية؟

يعود العروي هنا إلى ارنست كاسيرر لإبراز أطروحة أعداء "الدولة في ذاتها"، أي دولة هيجل المطلقة. إن دولة هيجل هي الدولة العقلانية التي لا تستسلم للنزوات الفردية، فالدولة تربي الناشئة حسب آرائها، توحد التنظيمات وتجسد الروح القومي أو حقيقة الجنس وليس روح الفرد.

وفي نفس الوقت يستند على تأويل اريك فايل الذي حكم على هيجل حكما مغايرا للذين يجعلون هيجل في مقابل كانط ويجعل من هيجل لا موقفا أسطوريا، بل نظرية علمية حول الدولة كما هي الآن وكما ستكون باستمرار، ما دامت ضرورية للإنسان. ويحاج بقول قايل: "إن نظرية هيجل في الدولة صحيحة لأنها تحلل بكيفية صحيحة الدولة القائمة في عصره وفي عصرنا" (28). ويضيف: "يمكن تجاوزها ولا يمكن بتاتا تفنيذها"، لذلك فكيف يمكن تجاوز الدولة حسب فايل؟

يعتبر فايل أن الدولة يمكن تجاوزها داخل الجدل التاريخي ذاته، وهنا يعالج فايل هيجل مع ماركس وكانط حسبما يذهب إليه العروي. أولا عن طريق الحرب فالدولة المستقلة بالنسبة للمجتمع العام هو الذي سيؤدي إلى إبداع منتظم دولي عالمي بعد أن تسأم المجتمعات المستقلة من الحروب الطاحنة المتوالية.

ثانيا، لتجاوز الدولة بسبب جدلها الداخلي، فلا تمثل الدولة العاقلة في رأي فايل، المطلق الهيجلي، لأن الروح المطلق لا يتحقق إلا في دولة كاملة الإنسانية لا تعرف التناقض، ويخلص العروي إلى أن تأويلات فايل تطابق بين الدولة الكاملة الهيجيلية مع المجتمع الاشتراكي الماركسي.

إن انتقادات فايل لهيجل حسب العروي تحيلنا على مسألتين أساسيتين:

1 – في مفهوم الدولة العالمية. إن الفكر عامة ليس فكرا مجردا وتأملات الفلاسفة ليست تأملات من فراغ بل تظل محكومة بمنطق ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وعلى الرغم من أن ما ينبغي أن يكون قد يكون مصبوغا بيوطوبيا فمن الصعب التكهن بتحقيقها إلا أنه في واقع الأمر تأملات تستحضر دوما وينبغي الوعي مسبقا بنتائجها. وهذا لا يعني أننا أمام تفكير مستقبلي سابق لآوانه، بل العكس إنما يعني ذلك عدم تبخيس التأملات التي لا تلزم في نهاية المطاف إلا من يجعلها اعتقادا إلى جانب صاحبها. والجدل حول الدولة العالمية ليس وفقط متجاوزا آنذاك، وإنما يصعب حتى الحديث عن الفكرة بشكل ملموس. وما يقع الآن في العالم من جدل حول نهاية الدولة المحلية وولادة الدولة القومية "الاتحاد الأوروبي مثلا"، ومختلف الاتحادات الجهوية، تسير في طريق توحيد أمة تحت تنظيم واحد في تراتبية ومتعدد في مشاربه وانحداراته الوطنية. ولكن لا ينبغي أن نغفل هنا أن المؤسسات دوما يجمعها رابط ايديولوجي، أو بلغة غي روشي لا وجود لحركة اجتماعية كتنظيم وكمؤسسة إلا بوجود مبدأي: الهوية، قوة ضغط.

فالهوية تجسد الأرضية التي على ضوئها يتعين الهدف ويتحدد الانتماء الاجتماعي والمطالب، وفي القوة تتجسد المقاومة والسعي نحو شرعنة المطالب. والمخاض الأوروبي الحالي حنين لم يتحدد بعد شكله، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بمصيره. وما يصدق على الدولة القومية – الجهوية يصدق أيضا على الدولة العالمية. فالسؤال اليوم لم يعد سؤال حول دور الدولة المحلية على الرغم من وجود اتفاقات تجارية تحاول إماطة اللثام على السلطة المحلية وتسعى للتدخل في الشؤون المحلية.

إن السؤال أصبح حول الدولة العالمية، فهل لدينا حكومة عالمية؟ وتنظيمات أممية تنظم تدخلها كاملا؟

إن سيرورة تطور النظام الرأسمالي العالمي، أفضى إلى أداة تحكم عالمية، حيث وجود منظمات دولية إليها اليد الطولى في كل السياسات المحلية. حيث اصبح دور الدولة المحلية محط سؤال عريض. ولكن ما يهم أكثر هو مصير الدولة العالمية، وإن لم تكن معالمها واضحة بشكل جلي. لقد تجاوز هيجل التناقض المحلي إلى المؤسسة العالمية كما تجاوز التاريخ إلى التاريخ الكوني أو تاريخ العالم، وهذا ما يقتضيه منطقه التركيبي، فالتناقض بين القضية ونقيضها يتولد الجديد ففي "العقل في التاريخ" ينظر منظورا جديدا يتجاوز بكثير أطروحة "فلسفة الحق". وإن صح القول فإن العروي الحق كاملا في اعتبار تأويل فايل تأويلا يطابق بين هيجل وماركس، فكل الانتقادات ما هي إلا الخيوط الأولى التي رسمها هيجل، على الرغم من أن الفهم الماركسي لمفهوم الدولة سيصبح متجاوزا مع الربع الأول من القرن العشرين بعد صدور كتاب لينين "الدولة والثورة"، والذي يرسم فيه أفق الدولة الاشتراكية التي ينبغي أن تسير نحو الاضمحلال وفكرة الاضمحلال هي ما سيقف عليها في المسألة الثانية.

2 – يشير العروي إلى الفكرة الفوضوية حول الدولة، وهي تحتاج إلى توضيح. لقد ارتبطت الفوضوية أو التحررية[4]، بالفرنسي برودون[5]، وعلى الرغم من أن ماركس وانجلس وقفوا أمام أطروحات برودون في الاقتصاد السياسي وفي الفلسفة، فإن فكرة الفوضوية تتمثل أساسا في نكران الدولة، في عدم الحاجة إليها، فإذا كانت الدولة في نظر الفوضوية سلطة للقمع الطبقي فإن الحاجة إليها لم تنشأ إلا لأداء وظيفة القمع، وأن نقيض البرجوازية لا يستطيع أن يشتغل بجهاز تكمن وظيفته في القمع، فتلك الوظيفة ـ الحاجة التي جعلت فكرة الدولة تظهر تاريخيا، لم تعد الحاجة إليها في المجتمع الاشتراكي النقيض، ولعل النقاش الذي أثارته التجربة السوفياثية حول "ديكتارتورية البروليتارية" أعمق ويعيد أفكار ماركس على المحك ونقف هنا عن فكرة الفوضويين لبيان الاختلاف القائم بين الاتجاهات المتعددة في الفكر الماركسي، فإن كانت أغلب التيارات الماركسية تنهل من "أصل واحد" هو كتابات ماركس وانجلس إلا أن وجهات النظر تختلف حتى في أكثر المسائل وضوحا لدى المؤسسين. فالدولة ينبغي أن تكون من وجهة نظر الحزب اللينيني دولة تسير نحو الاضمحلال، لأن الأسس التي تجعلها قائمة أول الأمر بعد الثورة المضادة، هكذا تم تبرير وجود الدولة لعامة السوفيتات في عهد لينين إلا أن التجربة أبانت عن نقاش آخر، سيمتد طويلا منذ منتصف العشرينيات إلى اليوم والذي سمي بالنقاش حول "البيروقراطية".

إن الغاية كل الغاية حول هاتين المسألتين الهامتين ليس قراءة العروي بما لا يحتمل ولا تحايلا عن القراءة، بل فقط لإبراز أهمية هذا النقاش حول مفهوم يبدو مجردا، فلسفيا ولكنه في حقيقة الأمر مفهوم يظل دوما حاضرا أمامنا.

يلخص العروي مجمل قوله في الفصل الأول ببيان ثلاث اتجاهات رئيسية في نظرية الدولة:

1. الاتجاه الديني الميتافيزيقي: أغسطين

2. الاتجاه الليبرالي ـ الأخلاقي مع كانط

3. الاتجاه اللاديني ـ اللأخلاقي مع هيجل

فهيجل عمل على نقد اليوطوبيا، أي نقد الإيديولوجية السابقة ولذلك يمثل في نظر العروي نقطة الالتقاء والتحول بين القديم والحديث، وهنا أهميته فنكران هذا الموقف لن يكون إلا عودة إلى الطوبى حيث يقول: "إذا قررنا أن نظرية هيجل مبنية على التمثل بالواقع ـ مهما كان حكمنا على نتائجها ـ وجب القول أن رفضها يعني بالضرورة عودة إلى الطوبى" (32).

صحيح أن الوقوف على هيجل أساسي وضروري جدا، لكن عزل سياق ظهور نظرية الدولة وعامة فلسفة الحق عن مضمونها لا يصح. فإغفال الإشارة إلى أي تطور للدولة على أنه تقدم مطلوب بالنظر إلى تطور الأخلاقية الاجتماعية. فالتناقض بين الأسرة والمجتمع المدني يؤدي إلى ظهور الدولة.

إن نظرية الدولة عند هيجل هنا تأخذ طابعا تعميميا وكأننا نسعى فقط إلى تبرير لماذا ينبغي الحديث عن الدولة كواقع إنساني، كظاهرة سياسية لا يصح مناقشتها من الخارج، لأننا لا يمكن أن نتجاوزها، بل هي نابعة من ضرورة كونها متطلبة تاريخيا، وتجاوزها لا يستقيم وغايتها في ذاتها، مع عدم إغفال أن الدولة حسب هيجل ليست وفقط فكرة عقلية أخلاقية خارجية، بل تتطور من خلال تجارب الإنسانية وتتبع هيجل للقانون ولفلسفة القانون في التشريعات الأوروبية وعلى الأخص تشريعات الرومان منذ البندكت / المدونة، مرورا بروح القوانين لمونتسكيو أتاح إطلاعا واسعا لتبرير عقلية واطلاقية وتعالي فكرة الدولة. وإن كان همنا البحث عن التبرير فإن اتخاذ موقف أن الدراسة هاته حول الدولة لا تمتح من الفلسفة، بل تتراوح بين الاجتماعيات والتاريخ والقانون والسياسة كاف للتبرير. ويجب الإشارة فقط إلى أن كتاب هيجل "أصول فلسفة الحق" ليس وفقط كتابا فلسفيا بل كتاب يعرف جيدا كيف يدمج الكل في نسقية فلسفية محكمة (التاريخ، القانون، الفلسفة، علم الاجتماع، الفكر السياسي...)

ينطلق في الفصل الثاني: النظرية النقدية للدولة (ص33 – 55)، من مماثلة فكرة ماركس حول الدولة وفكرة فيورباخ، فنقد ماركس لهيجل ما هو إلا نقد فيورباخ له مع الإستعانة بفلسفة الأنوار، فماركس "يضطر في كثير من الأحيان إلى تبني مواقف فلاسفة الأنوار ولا يتخطاها إلا حين يتعمق في مفهوم الواقع قيبدل بطبيعة الإنسان الدائمة تطور التاريخ"، وجوهر نقد فيورباخ يتمثل في عبارته الشهيرة: "الكائن هو الفاعل والفكرة هي الصفة" (35)، ويضيف: "يعتنق ماركس بلهف واندفاع هذه القاعدة ويطبقها، بطريقة تكاد تكون آلية، على كل حكم من أحكام هيجل في موضوع الدولة". تعريف هيجل للدولة يتلخص في أنها العقل في ذاته ولذاته . أما ماركس فيرى أن الدولة ترتكز أولا على وشائج القرابة (الأسرة كما الحال عند هيجل)، وثانيا على علاقات الانتاج (وسائل المعاش). إن هيجل يلجأ إلى تبرير المجرد بالملموس. في الوقت الذي يقلب فيه ماركس المعادلة لينطلق من الملموس (الواقع) للوصول إلى المجرد (الدولة). ولكن لماذا يعود ماركس إلى الأنوار؟ لأن هيجل ينفي نظرية التعاقد (وهذا نفي لنظرية الأنوار). ويقلب هيجل المعادلة بدلا من أن يصبح الفرد هو المنطلق والقاعدة تصبح الدولة هي الجوهري الأساس والمنطلق. فهيجل يعتبر أن الدولة أصل كل نظام وكل وجدان. ان رفض ماركس لفكرة هيجل هو عودة إلى فلسفة الأنوار هنا يقول العروي: "نقد هذه الفكرة (أي فكرة هيجل) نقدا منطقيا شكليا، هو نقد النقد، وبالتالي، هو رجوع إلى أرضية التعاقد بين أفراد سابقين على الدولة"(39). وواضح بالنسبة للعروي هنا أن ماركس لا يتعدى آفاق فلسفة الأنوار.

نقرأ سؤالا آخر هام: كيف استطاع ماركس أن يوظف منطق هيجل ضد هيجل؟ أين النقطة التي وقف عندها فمكنته من رؤية الواقع مقلوبا باستمرار في المنظور الهيغيلي، وهيأته ليتجاوز المجادلة الفيورباخية؟

ما يميز ماركس عن اليسار الهيجيلي هو إدراكه أن انسلاخ الدولة السياسية (الصورة) عن دولة المجتمع الانتاجي (الاقتصاد) حادث مستجد في التطور البشري، وأن التناقض بين الفرد المنتج والدولة السياسية ـ المطلقة عند هيجل ـ واقع تاريخي محدد وليس ضرورة منطقية دائمة.

ويعتبر ماركس أن الثورة الفرنسية هي التي حولت الدولة السياسية إلى هيئات اجتماعية حيث يقول: "ان الثورة الفرنسية هي التي حولت نهايا الهيئات السياسية إلى هيئات اجتماعية". ويعني ذلك أنه في المجتمع الاقطاعي تصبح السلطة السياسية هي السلطة الاجتماعية والهيئات السياسية هي الهيئات الاجتماعية حيث الاقطاع يمتلك كل شيء النفوذ الاقتصادي والتحكم السياسي. في الثورة الفرنسية حيث نشوء المجتمع المدني ونمو الطبقة الثالثة سيصبح الفصل بين الهيئتين أمرا ممكنا. إن هيجل يعود لتبرير الواقع إلى الوراء في الوقت الذي عليه ـ حسب ماركس ـ أن يستشرف الآفاق.

إن النقطة التي لعبت دورا هاما في قلب ماركس لهيجل تكمن في "الملكية العقارية".

يعتبر هيجل أن الطبقة العقارية (طبقة الملاكين العقاريين الكبار) من أهم ركائز العرش البروسي ـ الألماني، ينتمي إليها كبار قواد الجيش والوزراء والموظفين، ويخضع المجلس النيابي لسلطتها لأنها ممثلة فيه بشكل مستقل ومباشر. فهذه الطبقة ترتكز لملكية جماعية وراثية لا سيطرة لأي فرد عليها، ملكية متوارثة بالعرش، مشتركة مع طبقة التجار والحرفيين والخدمة مع الموظفين، لهذا فهي مؤهلة للعب دور الوسيط. ولتكون دعامة العرش والمجتمع.

وملاحظات وانتقادات ماركس تتمثل في أن هذه الطبقة لا تتمتع بنفوذ قوي لأنها مرتبطة بالاسرة والأرض، بل السبب هو تمليك العقار (ويصلح هذا حتى بالنسبة للملك).

فالملك لا يوجد لضرورة: "إن السلطة السياسية ليست بسلطة العقل بقدر ما هي سلطة الملكية" (47). أي أن الملكية الفردية هي أساس وأصل الدولة.

ويعتبر العروي أن إقرار ماركس بأن أصل الدولة هو الملكية الفردية هو عودة إلى فلسفة الأنوار حيث يقول: "عندما يربط ماركس الدولة بالملكية الفردية فإنه يستعمل الكلمة في معنى هيجل ومونتسكيو، معنى الدولة ـ المجتمع".

إن أهم خلاصات فكر ماركس في شبابيته تتمثل في:

1 – أسبقية المجتمع على الدولة على المستوى المنطقي، باعتناق مادية الأنوار ضد روحية ومثالية هيجل.

2 – رفض مقولة اصطناعية الدولة، بتبني جدل هيجل ضد تجريبية الأنوار.

3 – ربط شكل الدولة السياسي بشكل الملكية: باستبعاد حلي الأنوار وهيجل معا.

الأنوار يعتبرون أن الاساس هو المجتمع أما الدولة فهي مصطنعة تهدف فقط إلى خدمة المجتمع.

يعرج العروي على مساهمة انجلز "أصل العائلة والملكية والدولة"، ثم على لينين.

فانجلس يعتبر أن الدولة "ليست سلطة مفروضة على المجتمع من فوق، وليست "واقع الفكرة الأخلاقية" أو "مرآة وتجسيد العقل" كما يذهب هيجل. وإنما هي ثمرة المجتمع ذاته في مرحلة معينة من تطوره. إن نشأتها دليل على تناقضات داخلية مستعصية. ينقسم المجتمع طبيعيا إلى قوى متعارضة غير قابلة للتصالح، ولكي لا تغنى تلك الطبقات ذات المصالح الاقتصادية في صراع عقيم، تنشا بالضرورة سلطة مستقلة ظاهريا تخفف من حدة الصراع بوضعه في نطاق "النظام". تلك السلطة الناشئة عن المجتمع، المتعالية عليه، والتي تزيد استقلالا يوما بعد يوم، هي الدولة"(52).

الدولة هنا نابعة من الصراع الطبقي وليس سلطة فوقية، وبالنسبة للينين، فإننا نتلمس فكرتين أساسيتين:

ü فكرة الاضمحلال

ü فكرة استمرارية أشكال الدولة في الاشتراكية وحتى الشيوعية، أي أشكال التسيير والوظائف الاجتماعية: القمع، ضمان الرفاهية مثلا.

وإن كان أن العروي لا يقف بتفصيل على مسألة البيروقراطية في الاشتراكية الروسية.

في الفصل الثالث: "تكون الدولة"، يعلن العروي أنه يترك مجال الفلسفة ليدخل إلى مجال الاجتماعيات، مقرا أن الدولة وجهازها متماهيان. والاجتماعيات تهتم بمعطيات اثنولوجية. ويركز أكثر على الوضعانية التي غذاها تقدم العلم الحديث. فالوضعانية تعتبر أن الأداة تحمل في ذاتها هدف الدولة.

وهذا المنهج هو منهج انجلس، الذي ترك الفلسفة متجها إلى الاقتصاد والاثنوغرافية.

فالأهم لدى انجلس هو اختزال معنى الدولة في جهازها، وبما أنها جهاز قمعي فإن وظيفتها قمعية، وهي "أداة لممارسة العنف"، وهي الفكرة التي سيدافع عنها لينين في اختزال وظيفة الدولة في الاشتراكية في قمع الثورة المضادة.

يحكم العروي على منهج انجلس على أنه منهج وضعاني أثار اهتمام جميع الاثنولوجيين، حتى الذين لا يوافقون الفكر الماركسي كدعوة سياسية.

عند كبار علماء الاجتماع نجد أربع تصورات للدولة:

1. الدولة التاريخية، كما هو الحال لدى انجلس والاثنولوجيين، والمرتبطة باستقرار القبائل الرحل والملكية الخاصة والكتابة...

2. الدولة الحديثة: كما لدى ماركس في نقد فلسفة القانون لهيجل، حيث التنظيمات الجديدة التي عرضها عهد النهضة والثورة الفرنسية (النماذج التي استشهد بها ماركس: دولة ملكية فريديريك الثاني، ولويس الرابع عشر، وامبراطورية بونبارت).

3. الدولة الصناعية: والتي تؤكدها اجتماعيات القرن التاسع عشر، كدولة مجتمع تغلب فيه الصناعة والعمل في المصانع والمتاجر على العمل في الحقول.

4. الدولة المعاصرة: في اجتماعيات القرن العشرين، كجهاز مترتب على تداخل العلم والصناعة وارتفاع قطاع الخدمات وتنامي المواصلات واستعمال المعلوميات في المراقبة وتنظيم العمل.

يعتبر العروي أن نموذج انجلس "جد فضفاض"، ولا يصلح إلا لوصف الانتقال من الفلسفة إلى التاريخ والاثنولوجيا، ولا يستعمل إلا في الانثروبولوجيا السياسية. أما النموذج الرابع الإعلاموي فإنه يخص فقط قسما ضئيلا بالنظر إلى واقع المنتظم الدولي. أما النموذج الثاني والثالث في نظره: "يتداخلان ويؤلفان نموذجا واحدا يسمى الدولة الحديثة وهو ما يستعمله الباحثون في العلوم السياسية، وفي اجتماعيات البلاد النامية بخاصة، معتمدين على افكار ماركس وتحليلات فيبر" (62).

فالعروي يختار هذا النموذج (الدولة الحديثة ـ الصناعية) للأسباب التالية:

§ لأنه محور الاجتماعيات السياسية المعاصرة.

§ لأنه محل الوسط.

§ لأنه منطلق كثير من الدول الحالية، وهدف غالبية ما سواها.

§ لأنه مشترك بكيفية ما بين المجتمعات المصنعة والأخرى التي هي على طريق التصنيع.

ويجمل قوله في تفضيله وتبريره لهذا الشكل قائلا: " هو المعيار، إذا قلنا الدولة وسكتنا، فإياه نعني بدون مراء" (63).

ما تبقى في الفصل مجرد وصف لهذا النموذج مع جداول للمقارنة.

يحاول العروي من خلال دراسته أن يطبق نتائج التحليل على الوطن العربي، وهذا مضمون الفصول الأخرى في الكتاب.

فبراير 2009

العلوي رشيد

الدار البيضاء ـ الألفة

ثانوية عبد العزيز الفشتالي

elalaouirachid2006@yahoo.fr



[1] - كتاب عبد الله العروي: "مفهوم الدولة"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثامنة، 2006. نشير وسط النص إلى أرقام الصفحات.

[3] - (يشرحها بنظرة القانون إليها)

[4] - كما يحلو للبعض أن يسميها.

[5] - بيير جوزيف برودون Pierre Joseph Proudhon (1809 - 1865)

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire